خطب أعرابي امرأة في الصيف فرفضته، فلما كان في الشتاء، ومسّها البرد والجوع، طرقت بابه تطلب لبناً، تسد به فاقتها. فقال لها كلمته التي أصبحت مثلاً: - «الصيف ضيعت اللبن». والناس في بلادي يضيِّعون في الصيف أشياء كثيرة، ويتجرع الفقراء منهم ومحدودو الدخل مرارات الالتزامات الصيفية المتنامية عاماً بعد عام، ويبدو الشح والضيق في كل المرافق العامة، وتعلن الدوائر الخِدمية والزمنية حالة الطوارئ. ترتفع في الصيف درجة الحرارة إلى حد لا يطاق، حتى لا تستطيع معه الأجهزة المسخرة لتكييف الطبيعة على التغلب عليه، وترتفع مع درجة الحرارة نبضات القلوب، وتتوتر معها الأعصاب، وتصعد نسبة المشاكل والحوادث والخلافات. وفيه تكثر المناسبات، وتعمر قصور الأفراح، وتعج الأسواق بالمتسوقين، ويزداد نهم الناس، ويستذكرون ما غفلوا عنه، أو أرجؤوه، أو شغلوا عنه في أيام الدراسة، من مقومات الحياة ومتطلبات العصر. والمؤلم أن الصيف المرتقب من الآباء والأبناء للانطلاق في أرض الله الواسعة، للراحة والاستجمام، يرهقهم صَعوداً، ويخنقهم سعيراً. والمعهود أن الإجازات تفيض بالبهجة والسرور، واستعادة النشاط. والبسطاء والخليون والموسرون يحسبونها كذلك، ويظنون كل الظن أن الجميع بعد فراغهم منها، يعودون إلى ديارهم وأعمالهم، وهم ممتلئون بالحيوية والنشاط، وما درى أولئك أن السواد الأعظم يمرون بفترة الصيف اللافح، وكأن الأقدار قد جمعت لهم فيها كل العذابات والضوائق. أطفال أكملوا السابعة، يحتاج أولياؤهم إلى مراجعات للمدارس والمستشفيات والأحوال، تمهيداً لإلحاقهم بالمدارس، فمستهل العام الدراسي في أعقاب الصيف. وحملة الثانوية العامة من بنين وبنات بكثرتهم، وتدني معدلاتهم، يتدافعون إلى الجامعات، التي لا تستوعب شطرهم، ومكملون يحتاجون إلى دروس خصوصية، ومتفوقون يرقبون الاصطياف، ومؤخرون للزواج يتحفزون لاستكمال نصف الدين، وبيوت تحتاج إلى ترميم، وأجسام تتطلب فحوصات وعلاجاً، وأوضاع كثيرة يسوِّف بها أصحابها إلى العطلة، حتى إذا جاءت، جاءت معها بكل المصاعب والمتاعب. وخمسة ملايين مواطن يبرحون أرضهم وديارهم كل عام، جُلُّهم للاصطياف، كما في تصريح أحد المسؤولين، وخمسون مليار ريال، تراق تحت أقدام الاستجمام ومتطلبات السياحة خارج البلاد، كا يقول مسؤول آخر، وكل شيء في الصيف قابل للاشتعال، حتى الفيروسات والبعوض والجراثيم، وكل مراجع يتأبط بشماله ملفاً، يمسك بيمينه شفيعاً، وهو يردد: - «إن السفينة لا تجري على اليبسِ». وفي الصيف ينتهي العام الدراسي الذي قيد العفاريت والأشقياء من الطلاب والطالبات في البيوت للمذاكرة، وفي فصول الدراسة للتعلم، وفيه يفرغ الشباب من شبح الدراسة، ورهبة الامتحان، ولزوم البيوت، ومطاردة أوليائهم لهم، من أجل التحصيل، وحل الواجبات، وتنظيم الوقت، والنوم المبكر، والاستيقاظ المبكر، حتى إذا سلّموا آخر ورقة في الامتحان، لفظتهم البيوت، بما يتوفر لهم من: شباب، وفراغ، وجدة، وشيطنة. والثلاث الأول منها، «مفسدة للمرء أي مفسدة»، وما أن تغلق أبواب المدارس، تفتح أبواب المشاكل، فتضج السيارات بالحركة: جيئة وذهاباً، على غير هدى، وبدون حاجة، مما يعرض المارة للخطر، والسكان للأذية، ويعلو صريخ العجلات المزعج، تعبيراً عن البهجة بأيام الصيف، ولمواجهة هذا التعبير المتخلف، تنتشر سيارات المرور والدوريات، لتخفيف حدة الإزعاج، والحيلولة دون المخالفات والحوادث. وقد يصعّد الشباب التعبير عن مشاعرهم ب «التفحيط»، الخطر، والمواكب المزعجة، والسرعة المرعبة، والقطع المتعمد لإشارات المرور، وفي المنتزهات يختلط الحابل بالنابل والخليّ بالشجيّ، ثم لا يكون احترام لكبير ولا رأفة بصغير ولا غض لبصر، الأمر الذي يضطر جهات الأمن إلى إعلان حالة الطوارئ، وفي كل ذلك يتحمل الآباء مصائب الكوارث، والحوادث، والغرامات، والمطاردات، ويتحول حديث الناس إلى تفجُّع ومواساة، ومن لم تشبع فضوله التجمعات في الساحات، والمطاعم، والمقاهي، والحدائق، وأطراف المدينة، والاستراحات، والمراكز الصيفية النمطية المتقشِّفة المتسوِّلة، يأخذ ما خف حمله، وغلا ثمنه من أشيائه، مع ما يسلبه من جيب والده من مال، ويطوف مع زملائه أرجاء الوطن يبغي الرفاهية الموعودة، حتى إذا جاءها لم يجدها، ووجد الغلاء وأزمات السكن عند بوارق الدعاية، وقد تعدو عيناه إلى مطارح السياحة في الخارج، فيكون فريسة المغريات، ويعود بعد أمة، خالي الوفاض: جيباً وجسماً. واللافت للنظر أن نصف المغادرين كل عام، حسب إحصاء «إدارة الجوازات»، يذهبون إلى دولة البحرين، فماذا يجدون؟ وبماذا يعودون؟. وحين يغرق الشاب المسكون بكل الشهوات والرغبات في دنياه الحالمة فوق مرتفعات الجبال، أو على سواحل البحار، ينتابه كرم حاتمي، فيحثو الدينار والدرهم يميناً وشمالاً، مما يضطره إلى مهاتفة أبيه، طلباً لمزيد من النفقة أو إشعاراً لأهله بتمديد زمن الرحلة. والأب المسكين غارق بضيوفه الذين يتهافتون عليه من هنا وهناك، يستهل أيام العطلة بالولائم الدسمة، والترحيب العريض، والتعرض لكل قادم، فإذا شارفت العطلة الصيفية على النهاية زوته الحاجة، وأنهكه التعب، وتكاثرت عليه المناسبات، حتى يكون «كخراش»، الذي تكاثرت عليه «الظباء»، فما يدري ما يصيد، غير أن المسكين يتكاثر عليه «الغول»، فما يدري ما يواجه أو يتقي، فيجنح إلى الوجبات الخفيفة، والاعتذار المتواصل، ومحاولة التسلل لِواذاً من كل مناسبة، فلا يسلم جيب، ولا يتوفر عرض، ولا تحصل راحة. ولأن النساء والأطفال والبنين والبنات فارغون من كل شيء، فإن نهارهم يتحول إلى سبات، وليلهم إلى معاش، وتصير الهواتف والجوالات هي المتنفس الوحيد، وتظل الكهرباء على أشدها، وكل ذلك على حساب العائل الفقير، الذي أضناه عام الجد، وسحقته أيام الراحة والاستجمام، فما وجد الراحة في عام الجد، ولا وجد الاستجمام في أيام اللهو البريء. وصيف نجد من أسوأ الفصول، وأشدها حرارة، ولا يطفئ لظاه إلا تدفق الماء العذب والهواء البارد، ولا يتوفر ذلك إلا بأغلى الأثمان، و «شركة الكهرباء»، و «مصلحة المياه»، تدخلان في أزمات طاحنة، وعجز مخل بالوفاء، وفي هذا الفصل تكثر الشكاوى والتذمرات، من انقطاع التيار الكهربائي، ونضوب الخزانات، نتيجة الأحمال والاستغلال، وأزمة مياه الشرب قاتلة، فثمن الماء قد لا يكافئه راتب القاعدة العريضة من موظفي الدولة، وشح الماء يجعل «بورصة»، «الوايتات»، تضرب رقماً قياسياً، وتبدو ظاهرة السوق السوداء، الأمر الذي يضطر السلطات إلى التدخل لحماية المستهلك. ودعك من سائر المناسبات التي تعرف منها وتنكر، كمناسبات الزواج التي تشتعل في كل مدينة وقرية، وما يصحبها من إنفاق باذخ، لا يدرك حجمه إلا الوالدان والأقربون، فكل الأسواق، وبخاصة أسواق الذهب والهدايا والحلويات والزهور والعطور والأقمشة تعج بالحركة. كما ينشط مصممو الدعوات وطابعوها، ومصممو الأزياء، وخياطو الملابس والفساتين، وترتفع أسهم «الطقاقات»، و«الطهاة»، و «الكوافير»، وهذه المناسبات مضيعة للجهد والمال والوقت، تأتي على ما جمعه الآباء، وما وفره الأبناء والبنات من رواتب ومكافآت. ومما يضاعف الأعباء أن الأبعدين في مقار سكنهم من المعارف والأقارب والأصدقاء يقبلون بِقَضِّهم وقَضِيضِهِم: سائحين أو مشاركين في المناسبات، ولا يجدون الراحة إلا في بيوت أقاربهم، بدعوى صلة الأرحام، والتواصل، وتعارف الأبناء. وتقاطرهم جماعات ووحدانا يزيد الطين بلة، فبعض البيوت صغيرة، لا تتسع للساكنين الأصليين، ولا توفر الكفاف من خدمات الماء والكهرباء في الصيف لذويها، فإذا بها تستقبل العديد من الأقارب، لحضور مناسبة عارضة، أو زيارة واجبة، والعائل المسكين في جيئة وذهاب، لتوفير الأجواء الملائمة للنساء والأطفال داخل البيوت، ولذويهم من الرجال في المتنزهات والشاليهات والاستراحات، واليد القصيرة والعين البصيرة في جيئة وذهاب، لإنفاق ما في الجيب، في انتظار ما لا يأتي من الغيب، مستأنساً بالمثل التفاؤلي «أنفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب». والإنفاق مطلب ديني، والكرم سمة الرجال، وصلة الرحم من صفات المؤمنين، ولسنا ندعو إلى نقيض القيم والمثل العربية والإسلامية، ولكن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وإذا كان الموسرون قادرين على الإنفاق، وإذا كانت البيوت الواسعة قادرة على الاستيعاب، فإن الأغلبية لا يملكون مالاً، ولا يتوفرون على مساكن واسعة. ومع أن التزاور والتواصل مطلب إسلامي وعربي إلا أن الصيف بكل ضوائقه، لا يحتمل التحركات الجماعية، والوفادات المتواصلة، فهل من مدكر؟. ومناسبات الأفراح والأتراح باهظة التكاليف، ولا سيما إذا كان الأقارب يتعاملون مع بعضهم على مستوى «البروتوكول» الحاتمي، ومقتضيات الضيافة العربية، التي طواها التحضر، بحيث تُنحر الكُوم من بهيمة الأنعام، وتُقام الولائم، ويدعى الَجفَلَى من الأقارب والأباعد على حد:- «نحن في المشتاة ندعو الجَفَلَى... لا ترى الآدِبَ فينا ينتقر» وإذا استوت الذبائح على الجفان، لا يجد المضيف بداً من الاعتذار عن تقصيره في حق الضيف، مؤكداً أن حقه ليس فيما يوضع في الجِفان الغُرّ، التي تلمع في العتمات، وهذه الطوائف التي بَطِرَتْ معيشتَها، وجرَّت أُزُرَهَا، وفتلت شواربها، لا تنظر إلى المشاعر، ولا إلى الإمكانيات، وإنما تُسمِّرُ عيونَها على الوليمة، مؤمنةً بأن الإنسان يُقوَّم من خلال أشيائه، لا من خلال ذاته وأخلاقياته، وما علموا أن المرء إذا لم يدنس من اللؤم غرضه، «فكل رداء يرتديه جميل»، وهي بهذه الرؤية الشيئية، تقوِّم ذاتها بالشاء والبعير، مما لا يؤكل، ولا يترك في الجيوب لمناسبات أخرى. و «الجمعيات الخيرية»، التي تستعمل فيوض المناسبات، تضيق ذرعاً بالدعوات، للملمة أشلاء الولائم الممزوجة بأشلاء المساكين، وتكون المنعمة المتفضلة، حين تبادر إلى منزل الداعي، وتخلصه من بقايا مائدة باهظة التكاليف، لم يؤكل منها إلا اليسير، وماذا على الطرفين:- الضيف والمضيف، لو أقيمت وليمة مناسبة، تكفي للضيوف، وتحد من الإسراف، وتحول دون تبذير ثروة البلاد من المواشي والأرزاق والطاقات، وإخلاء جيوب المواطن، وامتلاء جيوب العمالة الوافدة التي تتولى: الذبح، والطبخ، والتخديم. وما توفر من الاقتصاد والتعقل، لا يودع في البنوك، وإنما يصرف نقداً للجمعيات الخيرية، أو تستقبل به مناسبات أخرى، أحسب أننا لو فعلنا مثل ذلك، ونهض به الأثرياء والأعيان بوصفهم القدوة، لكنا أكثر تحضراً، وأقرب إلى المثوبة. وما يقدمه البعض لضيوفه، يعد من الإسراف المذموم، وما يصير من فائض الأغذية إلى صناديق النفايات، يفوق المأكول منها، وفي ذلك كفر للنعم. ومما يزيد الإثم، ويحقق التخلف الحضاري، لجوء المضيف إلى الاقتراض أو الاستدانة بالتقسيط، أو حين ينعكس انفاقه الباذخ على واجباته الضرورية إزاء أسرته، أو حين لا يقوم بحق القانع والمعترّ والسائل والمحروم من ذوي القربى والأرحام. وكم من مسرف تعقدت حياته، وتشرد أهله، بسبب العادات السيئة، التي لا تعد مؤشراً حضارياً، ولا مطلباً إسلامياً. ومن شاء معرفة تحول العادات السيئة إلى بدعيات تعبدية، فلينظر إلى «أيام العزاء»، وكيف يواجه المصابون من التكاليف، وكيف يستقبلون من العوائل والمعزين، الذين يطيب لهم المقام، فيأكلون، ويشربون، ويتحدثون في أمور الدنيا، ويغتابون، وهم في مجلس العزاء البدعي، فيجمعون بين بدعية الظاهرة، وإثم الممارسة. ثم لينظر إلى الذين يصنعون الطعام للمصابين، في سبيل إحياء السنة التي ندب إليها الإسلام، مما يسرفون على أنفسهم، ويقدمون الولائم الباهظة التكاليف إلى محزونين لا يحتاجون أكثر من سد الرَّمق، وقد يكون الأقربون للمصابين عاجزين عن المسايرة، فيتركون السنة عجزاً لا تقصيراً، ومن ثم يعرضون أنفسهم للمؤاخذة، وبهذه الأساليب البدعية المتخلفة تتحول السنن إلى مباهاة وبذخ. والصيف الذي ترتفع فيه درجات الحرارة في الطبيعة، ترتفع فيه درجات الحرارة في الصدور، وينعكس أثر ذلك على العلاقات الأسرية، وبدل أن تقضي الأسرة صيفها بالراحة والاستجمام، تكون العذابات المستطيرة، والخلافات والمنازعات. وما أحوج الأمة إلى حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا، وصدق الشاعر:- ولا خير في حلم إذا لم تكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا إن الصيف ضيف ثقيل مملٌّ: بطبعه ومتطلباته. شبحه مخيف، وظله لا ظليل، ولا يغني من اللهب، ولما نزلْ بانتظار «الحكيم»، الذي إذا أورد الجهلة أصدر الورد بحكمة وروية. فلا كنا، ولا كان الصيف بهذه المواصفات، ولو تبصّرنا، وعقلنا، لكان صيفنا صيفاً سعيداً، لم يضيّع فيه ماء ولا لبن.