واليوم عزيزي القارىء نقف بتأمل عميق أمام مشهدين من السيرة العطرة، أحدهما قبل البعثة والآخر بعدها. أما المشهد الأول: فإنه ومنذ طفولته وصباه وشبابه اشتهر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالصدق والأمانة حتى سمي بالأمين، ولقد قال لقريش يوماً بعد أن جمعهم وقد اعتلى جبل الصفا بعد البعثة إن الرائد لا يكذب أهله والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً خلف هذا الجبل، أكنتم تصدقوني؟ قالوا: نعم أنت عندنا غير متهم، وما جربنا عليك كذباً قط.. فأعلمهم أنه بشير ونذير بين يدي عذاب شديد. حتى قال له أبو لهب: تباً لك يا محمد ألهذا جمعتنا؟.. القصة. وقد روى التاريخ أنه قبل ظهور الإسلام، وعمر الرسول صلوات الله وسلامه عليه خمسة وثلاثون عاماً اختلفت القبائل على من يعيد الحجر الأسود إلى موضعه بعد ما تم بناء الكعبة من جديد، وتحالف بنو عبدالدار وبنو عدي أن يمنعوا أي قبيلة من هذا الشرف العظيم، حتى وضع بنو عبدالدار أيديهم في وعاء مملوء بالدم تأكيداً لعهدهم هذا ومن ذلك جاءت تسميتهم «لعقة الدم»: وقد أشار أبو أمية بن المغيرة المخزومي وكان شريفاً مطاعا في قومه على القبائل بأن تحتكم الى أول من يدخل من باب الصفا الذي وقفوا خلفه، وكان الداخل في تلك اللحظة هو النبي صلى الله عليه وسلم فقصوا عليه قصة خلافهم وحكَّموه، وقالوا: هذا الأمين نرضى بحكمه. فكّر الرسول صلى الله عليه وسلم قليلاً ثم طلب منهم ثوباً بسطه على الأرض، واستلم الحجر بيديه الشريفتين ووضعه في الثوب، وطلب أن يأخذ كبير كل قبيلة بطرف من الثوب وحملوه جميعاً إلى محاذاة موضعه، ثم تناوله الرسول صلى الله عليه وسلم ووضعه في مكانه، وانحسم الخلاف بحكمة الصادق الأمين. وهذه الواقعة المشهورة في وجدان المسلمين تؤكد درجة الحكمة العالية قبل البعثة التي فاقت حكمة القبائل وشيوخها مجتمعين، تلك الحكمة النبوية الباكرة التي جنَّبت الناس أهوال الخلاف، وهذا يدل على أن الله صنعه على عينه واصطفاه من سائر خلقه. * أما المشهد الثاني فقد روى ابن اسحاق في «السيرة النبوية» برواية عبدالملك بن سفيان الثقفي، أن رجلا من «إراش» وهي قبيلة خارج مكة، كان أبو جهل (عمرو بن هشام) قد اشترى منه ابلاً وماطله في الدفع، فأقبل الاراشي يوماً على جمع من قريش قائلاً: يا معشر قريش، قد غلبني ابو الحكم على حقي وأنا غريب ابن سبيل وسألهم رجلاً يؤديه على أبى الحكم. في تلك اللحظة كان «محمد عليه الصلاة والسلام» جالسا في ناحية المسجد، فأشار أهل المجلس للإراشي عليه أن هو الرجل الذي ينشد وكانوا يدبرون لمواجهة توقعوها عاصفة مع واحد من اعتى اعداء الدعوة ورسولها. وأقبل الغريب إلى «الرسول صلى الله عليه وسلم» وبثه شكواه فنهض معه فوراً مصطحباً الرجل بلا تردد إلى حيث طرق باب أبى الحكم، الذي خرج اليه بوجه ممتقع خوفا ورهبة، فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم اعط هذا الرجل حقه، قال: نعم.. ودخل فخرج بحق الرجل ودفعه اليه، وانصرف نبينا «عليه الصلاة والسلام» بعد أن قال للأبراشي: الحق بشأنك. ولما خرج أبو الحكم إلى قريش قالوا له ولما خنعت له وخضعت؟ قال والله لقد رأيت فحلاً فاغراً فاه لو قلت له لا لابتلعني. لم يتوان الرسول صلى الله عليه وسلم عن نصرة الرجل، فقد رأى نفسه أمام حالة التزم بها الضمير العربي حتى قبل بعثة الإسلام وهي نصرة المظلوم والوقوف إلى جوار صاحب الحق، ثم جاء الإسلام ليؤكد هذا الموروث العربي المتراكم.