في عام 1996م أصدرت ميرال الطحاوي روايتها الأولى «الخباء» عن دار شرقيات في القاهرة. مصورة بيئتها العشائرية البدوية في الجزء الريفي من محافظة الشرقية.. وفي العام 2002م أصدرت «نقرات الظباء».. معلنة وثيقة انتمائها للبيئة ذاتها.. ومحققة في الآن ذاته..انتماء مطرداً لذلك.. وتنويعاً في التناول السردي.. لتلك المنطقة الريفية المحكومة بالناموس البدوي.. في تجليه الحياتي.. وانتمائه لقانونه الصارم.. فمن تلك المنطقة الصحراوية.. المنفتحة على أطرافها العرقية في شمال ووسط الجزيرة العربية.. تضطلع الرواية لتحفيز ذلك الأفق المغلق على الامتزاج بأعراقه القبلية.. وامتداداته الأجناسية.. عبر رصد للحياة البدوية في تفاصيلها الداخلية المعيشة، وممارساتها العامة المكشوفة.. «هند» الفتاة المنتمية لال منازع من بني سليم.. تتمظهر في الرواية كعلم يشير الى عالم المرأة المستتر في الرواية وتشدها «الأنا» الراوية.. الى عالم الكتابة الظاهر.. والمكشوف.. وتجد نفسها في بيئة بدوية مترفة.. حريصة على انتمائها العشائري.. عبر احداثيات السرد.. وتفاصيله.. وتروم الى تحقيق ذاتها.. من خلال صوت منخفض.. يتوارى في «الكشكول» الذي تدون فيه أسرارها التي لم يعرضها أحد، وإذا دخلت الى الممشى فستجلس على جذع شجرة المانجو الهندي التي يجمعون قطافها أولاً؛ لأنها تنضج قبل الأخرى، أو تقرفص على غابة من أشجار الجوافة التي فر في آخر الدغل، هناك ستراه ممسكا بصدر «فرحانة» التي تتقافز كقردة فوق التراب، ويتأرجح لهاث صدرها، وسط الخرزات التي تنفلت من عقدها..»ص10. وفي هذا العالم المخملي في تجليه السردي، وفي اطار الأفق البدوي، تجد هند نفسها.. محاطة بالعشيرة التي يفتتن رجالها بالصيد.. وتربية الصقور وقنص «الظباء».. والمحافظة على ارثهم العشائري، وتتميز طبقات محيطهم الصغير.. بين النبلاء.. والعبيد.. والخدم! وتقص «النجدية» المربية على هند سيرة هذه العشيرة.. وبطولاتها.. وعلاقاتها القبلية الممتدة الى قبائل شمر وعنزة في الجزيرة العربية..! وأصدقائها من قبيلة مزينة.. فيما يختمر في وعي «هند» طبيعة هذا السلوك الذكوري لرجال قبيلتها.. واندغامها المبطن في سلالة الأسرة العظيمة. فيما تأخذ «الأنا» الراوية.. ضبط السرد.. ** وتتماهى به في هذه الأجواء.. متحققة من صوته المتجذر في فترة تاريخية غابرة.. وتنسج تفاصيله بوضوح وعقلانية.. تتداخل في الأجواء السردية.. متعادلة في سردها بين تاريخ الوجود العشائري وعلاقاته.. ونبض الشخصيات التي يتحقق وجودها في النص. وتشيد تكوينات سردية للحياة البدوية من خلال هند.. ومحيطها الأسري.. وولع ذكورها بهواية الصيد.. واخلاصهم له.. بحيث تصبح علاقة «الصقار» بالصقر.. وتبدي فضاء «القنص» في تلك البيئة. كعلامة على ترفه المعيشي المتحقق من الإرث العشائري الصميم.. «فالصقر» يتجلى عبر الرواية كمحور دال على التكوين النفسي «للباشا» وشريكاً للأمير «لبد» في سفراته الطويلة.. ورحلات القنص المتعددة.. والجوارح.. هي الرفيق المخلص في هذه الرحلات.. وهي دليل الرجولة المرتبطة بدءا بهذه الهواية المعبرة عن علاقة البدوي بأجوائه.. وفضاءات تحقيقه لوجوده من خلالها.. وهذا الحشد من النساء.. والخدم.. والضيوف والمآدب.. يستجيب لمكملات هذا الوجود.. التي تتربى فيه «هند» وتجيد الساردة ببراعة تكوين أجوائه العامة.. وتفاصيله المعيشية. ** فتألف خط السرد الغني،، واستبطانه لأسماء.. وبعض حقائق ذلك التاريخ، يجعل من البنية السردية للرواية.. واحتشاء هذه البنية بالشخوص الواقعية، والأسماء ذات الدلالات والمواقف المهمة في التاريخ الحديث.. يعطي قيمة دلالية صدقية لذلك التاريخ ويعمق أبو جاد مثل هذه الأحداث، التي تكون شخوص الرواية والتي حرصت الكاتبة على ترقيمها بعلامتي تنصيص («») على امتداد السرد.. وتوافق الخط السردي المعلن مع التحولات التاريخية في ذلك الزمن.. والتي لا تظهر تفاصيلها.. بقدر ما تتبدى أسماء شخوصها الفاعلة، مما يثبت مستوى من مستويات التناص بين التاريخي/ والسردي.. في تناغم تهيئه شخوص الرواية بهويتها العشائرية واقليميتها المكانية.. ومدى وعي «الرجال» كقيمة مهيمنة دالة على تلك الهوية.. بأهمية ارتباطها الجهوي بشخوص ذلك الواقع التاريخي.. الذي لا يعني لها أكثر من مستوى أسري نبيل.. وطبقة نخبوية.. تتقاسم معها مجد الارتباط العشائري.. وهواية الترف البرجوازي «الخيل.. والقنص.. والعناية بالجوارح». وذلك المحيط البدوي الذي تنتقيه الكاتبة بعيدا عن المستوى المتداول لقيم الحياة البدوية التي لا يرد تداولا إلا لترسيخ معاني الشظف.. والقسوة والتواضع والبساطة المعيشية..! فبحكم التسلسل الأسري لتلك الطبقة.. التي ورثت جاهها المادي والمعنوي وقيمها المعيشية.. والسلوكية.. لتظل بمنأى عن معنى المدرك المتداول من حياة البادية.. ولتظل مستجيبة بحكم قدرها لقبول المتغير الحياتي، ولانكشاف جزء من العالم المحيط بها لتتبدى أمامه بعلامة فوقيتها المادية ومخمليتها المعيشية.. ولكن في اطار تقاليدها الصارمة. وظلت «هند» هي المعبر والدال على نسج تلك الاستجابة وكما ترد على لسان الآنا الراوية.. ترنو الى تلمس شيء من الامتزاج، ببعض نسيج العالم المجاور من الحواضر المدنية. ** وإن كان المستوى المتواضع يتمثل في الملبس.. وبعض دلالات الخطاب الحواري.. الذي ينم عن ضيق بذلك الدرك من الفرضيات الصارمة.. التي تكتنفها من إرث العشيرة «انشراح» التي في صورة «هند» بثوب قصير وبنطال منقوش، سمراء، عفية ولها صوت فشلت «النجدية» ان تجعله أقل ضجة - يقولون ان الجد منازع اشترى أمها من مكان يدعى «ودمدني». كان ذلك عندما كان عائداً مع قوافل الصمغ وريش النعام والأخشاب المعطرة..»ص45. وتعكس هذه الجزئية الوصفية من السرد.. تماهي الساردة في ابراز حضور الدلالات التي أسلفنا ذكرها.. واستبصار دواخل شخصياتها.. اضاءة لذلك العالم.. الذي يمثل في سريته. وابتعاده عن الحضور العلني، علامة من علامات التخاطب والتعايش بين هذه الأجناس، ينمي معنى نظامه الداخلي ومزاجه النفسي.. فصرامة المحادثة وأدبياتها بين «السيد» والعبيد.. وبين النساء والرجال.. يشي بأنظمة العلاقات الصارمة بين هذه الأجناس.. ** ويعكس دلالات ترتيبها الطبقي.. والحيز الذي يقتطع أجزاء كبيرة من الخارطة السردية لوصف رحلات الصيد.. وعلاقة القناص بالجوارح و«كلاب السلوقي» وعناية «الباشا» بالطير المصاب بالدمامل.. وانتشائه بمنظر الفريسة في مخالب الطير..! وقراءته المتأملة لصور أجداده في صالون البيت الكبير.. يحاكي دلالات السطوة الذكورية.. في نظام مجتمعي محكوم بالماضي.. وشديد الاخلاص له.. وتفاصيل زواج «هند» وانجابها وموتها.. يرصد ماهية العلاقات الانسانية بين عناصر ذلك النظام.. ومحتوى وجوده القيمي.. كما يمثل تعدد الأصوات في النسيج السردي.. وتردد الأسماء «المهمة» في تاريخ العرب السياسي والاجتماعي دالاً على ارتباط السرد بشرعية التاريخ وحقائقه الثابتة.. وعلامة من علامات انتصاره لقيمه وأعرافه.. «ظلت العمة «فاطمة» التي تجلس بجوار «النجدية» تروح وتجىء وتسحق البن والهيل والحبهان والباشا يجلس في تراسة وثمة ضيوف أكثر أهمية، يفرش لهم الممشى بالسجاد الأحمر، ويتحدث عن مولانا الذي يقنص في أنشاص أو قارون، أو وادي الريان وتراقب «هند» وهي تسند رأسها الى فراغ البلكون و«سهلة» تلعب بعرائس قش وقطن مع خادمات صغيرات..»ص43. وعلى مستوى بنية الصياغة.. عنيت الكاتبة بمهارة بتأصيل المد الشعبي في صياغة الحوارات المتبادلة بين شخصياتها. في استكناه دلالة الحكي الشعبي المحلي، المنزاح الى ثقافة البيئة، ولا سيما بين العناصر الأنثوية في السرد.. والتي تجتهد في استنطاق مكنونها النفسي وتجليه عبر ممكنات التعبير السردي.. والذي يحيل دلالياً الى بادية الريف المصري.. بكل ما ينسجم مع طابعه الحميم.. وداله المعبر عن احتدام المواقف النفسية لتلك العناصر.. واحتشادها للبوح برأيها في ذلك المحيط..!