منذ فترة ليست بقصيرة، لنقل قبل أحداث 11سبتمبر وما تلاها من تغيير شامل في السياسة الأمريكية الخارجية، التفت البيت الأبيض فجأة إلى الحرب الأهلية في السودان التي طال أمدها على نحو أثار مخاوف البعض، ويأس البعض الآخر من إمكانية وقفها. والتفات البيت الأبيض للقضية السودانية يمثل في حد ذاته حدثاً مهماً في نظر المحللين السياسيين، ولعل السبب في ذلك التصريح الذي جاء على لسان وزير الخارجية الأمريكي، كولن باول، حين قال: «لعله لا توجد الآن مأساة أكثر فداحة من تلك(يقصد الحرب الأهلية في السودان) على ظهر الأرض»، زد على ذلك اتجاه الرئيس بوش إلى تعيين مبعوث خاص يكون مسئولا عن إدارة المسألة السودانية، دون أن ننسى أن الرئيس بوش كان في وقت ما غير مبال بالقارة السوداء كلها،لا السودان فقط. وبعد أن أخذ على عاتقه مسئولية التعامل مع الصراع بين الشمال والجنوب السودانيين، زار جون دانفورث السودان مرتين، الأمر الذي رد الروح في عملية السلام بعد أن كانت جثة هامدة لا حياة فيها ولا أمل، ولا شك أن مهمته كانت، ومازالت، شاقة، ففي خلال رحلة واحدة، قصفت الحكومة السودانية مهبط طائرات في الجنوب قبل مجيء دانفورث بيومين إلى المنطقة التي شهدت القصف، لم يعبأ المبعوث الأمريكي بأمر القصف. وأخبر وزير الدفاع السوداني أنه في طريقه إلى تلك المنطقة. مما أدى إلى إخراجها من مناطق النزاع المسلح. وفي الأسبوع الماضي، قرر الرئيس بوش تمديد مهمة دانفورث. خطوة صائبة لاشك في ذلك؛ وإن لم تكن بالضرورة واضحة أو مفهومة، وقد تزامنت هذه الخطوة مع الشعور الذي ساد بين جناح المحافظين المتدينين في الكونجرس بأن دانفورث لم يتعاطف مع المتمردين في الجنوب، وهم في ذلك لا ينسون أنهم أصحاب الفضل الأول في مساعدة الرئيس الأمريكي على الالتفات إلى السودان لأول مرة منذ دخوله البيت الأبيض، ويرى الجناح المحافظ أن دانفورث كان ليناً مع الحكومة الإسلامية في الشمال، متشددا مع المتمردين. المسيحيين، في الجنوب، وصل الأمر إلى أن السناتور سبنسر باكوس في حديثه مع الجمعية القومية الإنجيلية وصف المفاوضات مع الحكومة المركزية في الشمال السوداني بأنها «مهمة حمقاء»، لكن بوش أعطى مبعوثه الخاص، دانفورث، الضوء الأخضر للمضي قدما في مباحثات السلام أياً كانت المواقف وتداعياتها.فالمباحثات، من الناحية النظرية، من الممكن أن تأتي بمفعولها. الحكومة المركزية، مثلا، استطاعت اسكات الصوت المتشدد لهؤلاء الذين طالما حضوها على معاداة الجنوب، كما تبذل الحكومة قدر طاقتها للتقرب من الغرب، والتعاون معه في الجهود الرامية إلى مكافحة الإرهاب، في الوقت ذاته، يدرك الجنوبيون أنهم لا يستطيعون الانتصار في تلك الحرب، ويعلمون أن السلام مع الحكومة الشمالية سيخفف المعاناة الإنسانية في مناطق النزاع والصدام، ومن المتوقع في هذا الشأن أن يعقد اتفاق يقضي بحق الجنوبيين في الاستقلال الديني والثقافي، مع شكل ما من أشكال الحكم الذاتي، أكثر من ذلك أن دانفورث نجح في إقناع الجانب المصري بدعم عملية السلام بدلا من استقبالها بسياسات الشك والتحفظ التي تعوق أي نجاحات محتملة. غير أن الورقة المؤثرة في تلك اللعبة هي دون أدنى شك البترول، خاصةوأن السودان بدأ في تصديره منذ ثلاث سنوات، خطورة تلك الورقة تكمن في أنها تتيح للحكومة المركزية شراء الأسلحة من روسيا، بل وتدفعها إلى تدوير آلة الذبح والقتل في سكان الجنوب من الفلاحين المتمركزين حول حقول البترول وبحجة أنهم قد يؤوون المتمردين. ومن مخاطر ورقة البترول أنه يجعل منطق الحرب أكثر تشددا وصعوبة في التعامل معه، فقد بدا الهجوم الذي شنته الحكومة الأسبوع الماضي وبعد يومين من مقابلة دانفورث مع الرئيس بوش، بدا كما لو كان محاولة من جانب المتشددين في الحكومة الشمالية لنسف مهمة دانفورث قبل أن تبدأ، وللنجاح في التغلب على هذه الخطوات المفاجئة، يحتاج دانفورث إلى شيئين على الرئيس بوش أن يوفرهما: المزيد من الموارد، درجة أعلى من ممارسة الضعوط على الحكومة السودانية ( إتباع سياسة لي الذراع). بالنسبة للموارد، استطاع دانفورث، في مارس الماضي، أن يحمل الحكومةوالمتمردين على الوعد بإنهاء الهجمات على المدنيين من الجانبين. وكان من بنود الاتفاق تعيين 15 مراقبا دوليا للتحقق من الالتزام بهذا الوعد، وهو عدد لا يذكر قياسا لتلك المساحة الشاسعة التي تشغلها الرقعة السودانية، الأدهي من ذلك أن هذا العدد لم يتم توفيره حتى الآن رغم مرور شهرين على هذا الاتفاق.وقد نتج عن ذلك عدم توثيق أو تسجيل عملية القصف التي شهدتها قرية «راير» لعدم وجود هؤلاء المراقبين الأمر الذي جعل القصف يمر دون محاسبةالحكومة الجهة المنفذة له. نأتي ثانيا إلي سياسة الضغط ولي الذراع، فالشمال لديه بعض الحوافز التي تدفعه لمواصلة مباحثات السلام، ورفع الحظر أهم هذه الحوافز، غير أن هذا الحظر له مردود مالي أقل شأنا من عوائد البترول. كما أن معاهدة السلام مع الجنوب سوف تتضمن مشاركة الجنوبيين في عوائد البترول، والشمال، من ناحيته، لن يبدي أي اهتمام جاد وحقيقي بالسلام مع الجنوب إلا إذا أدخلت الأطراف العاملة على وقف الصراع تغييرا جذريا على معادلة البترول، والسبيل الوحيد لتنفيذ ذلك هو إعداد قائمة بالدول التي تقوم شركاتها بتطوير حقول البترول السودانية، مع البدء بالصين وماليزيا وكندا لدفع كل منها على تهديد حكومة السودان بسحب شركاتها من أراضيها إذا لم تتعامل بجدية مع مباحثات السلام.وقد طلب دانفورث بالفعل من البيت الأبيض البدء في تنفيذ استراتيجية من هذا القبيل، لكن البيت الأبيض يعارض هذا الطلب، إذاً، كيف لك أن تتوقع إحلال السلام دون التهديد بوقف العائد من البترول، أهم ضلع في النزاع الدائر بين الجنوب والشمال؟هل الحل مستحيل؟ فالنخبة السودانية تستفيد قطعا من الحرب الدائرة، وتنصب في جيوبها العوائد النقدية التي يحصلون عليها من صفقات السلاح الممولة بالدولار والبترول، والخطوات الأمريكية يكتنفها الغموض؛ فهي تعارض اقتراحات دانفورث، لكنها تستبقيه دون فهم واضح لدوافع التدخل الأمريكي: البترول، أم ترويض الحكومة الأصولية في الشمال (الحرب على الإرهاب)، أم مناصرة المسيحيين الجنوبيين؟.