لقد تعهد الله سبحانه بحفظ كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد يسّر الله سبحانه لهذا الحفظ وسائل عديدة متجددة، وجعل من أقواها عملية الحفظ بالصدور وأعماق القلوب والعقول فهذا هو الحفظ الذي يُثاب عليه صاحبه، ويرتفع شأنه به، ويعلو به قدره، ويسمو به عن الصغائر، ويقدم من خلاله أقصى درجات النفع والفائدة والإفادة لأمته ووطنه ودينه ومجتمعه بإذن الله. لقد حرص المسلمون في مختلف العصور والأزمنة على الحفظ سواء بأنفسهم، أو تشجيع وحث أبنائهم على ذلك بشكل حاز على إعجاب المعمورة بأسرها، وعلم الأعداء أن لا مجال للوصول والنيل من القرآن الكريم، لأنه في الصدور قبل الصحف. لكل هذا حرص ابناء الأمة الغيورون وعلماؤها والقائمون على الأمور فيها على هذا الجانب التربوي الإسلامي الصحيح العظيم الأثر، وقدموا كل ما من شأنه المساعدة للوصول به إلى أروع الدرجات وأسمى المراتب، ولعل من الأمور النافعة أن نذكر أن الأمة قد وصلت لخلاصة خبرة في عملية الحفظ استقتها من تجارب الأجيال المتعاقبة ومن الخبرات الفردية في هذا المجال، لا بل تعدى الأمر ذلك لدرجة وجود دراسات متخصصة في هذا المجال للبحث بأفضل سبل المساعدة على حفظ كتاب الله تعالى. هناك طرق ثبتت صحتها ونجاحها في عملية حفظ القرآن الكريم، وقد ذكر ذوو الاختصاص ذلك، وشددوا على أهمية تطبيقها، وشجعوا الأبناء على العمل بهذا لما فيه من اليسر والسهولة والخير العميم. لعل من أول تلك الطرق، بالتأكيد إخلاص النية لله تعالى، وقصد وجهه تعالى، قال تعالى: {قٍلً إنٌَي أٍمٌرًتٍ أّنً أّعًبٍدّ پلَّهّ مٍخًلٌصْا لَّهٍ پدٌَينّ} [الزمر: 11] وإخلاص النية هو الأساس في أي عمل، فما بالك بعمل لا يُرتجى منه إلا رضوان الله تعالى. إنه من المهم اختيار الوقت الذي لا ينشغل فيه الذهن بأي أمور أخرى تصرف الإنسان عن عملية الحفظ، وأفضل الأوقات أول النهار، قال صلى الله عليه وسلم : (اللهم بارك لأمتي في بكورها)، أو (بورك لأمتي في بكورها). وقد وجدت في دراسة قمت بها على حفظة كتاب الله من المتسابقين والمتسابقات على جائزة الأمير سلمان لحفظ القرآن الكريم ان هذا من الحقائق حيث ذكر غالبية أفراد العينة ذلك، وأكدوا أن أنسب وقت للحفظ هو بعد صلاة الفجر، وأضافت نسبة لا بأس بها أن الوقت بعد صلاة العصر مناسب أيضاً، وهذه الأوقات سرها يكمن في أن الفكر لا يكون منشغلاً. لقد عرف الغرب سر الاستيقاظ الباكر والنوم الباكر، وصاروا يعملون ذلك، ويبرمجون حياتهم حسب ذلك لتحقيق المزيد من الإنجاز والعمل، بينما نحن وللأسف فقد اقتبسنا عادات ليست من الغرب ولا من الشرق وبعيدة كلية عن جوهر ديننا، فصار ليلنا نهاراً ونهارنا ليلاً ولا حول ولا قوة إلا بالله. إن امتثال الغرب لهذه الحقيقة وتنظيم حياتهم وأعمالهم إنما يدل على حرصهم على النافع، حتى ولو كان مصدره عاداتنا وتقاليدنا. أيضاً من وسائل الحفظ المثمرة الحرص على تصحيح النطق بالقرآن الكريم، ولا يكون ذلك الا بالسماع من قارىء متقن شخصيا أو بأداة معينة ويجب تحديد نسبة معينة من الآيات كل يوم لحفظها حسب المقدرة والاستطاعة كصفحة أو ثمن، وعدم تجاوز المقرر اليومي إلا بعد إتقان الحفظ على أتم وجه وبالشكل الأمثل. أيضا يجب ان يحفظ الشخص من مصحف معين ثابت له، لا يستبدله بغيره، لأن عملية النظر مهمة في هذا المجال، وفي نفس الوقت لا يكفي النظر، وإنما يحسن فهم معاني الآيات المراد حفظها والتمعن بها، ومعرفة أوجه الربط بينها. ومن الأهمية بمكان أيضا التسميع الدائم للمحفوظ من القرآن الكريم، لأنه كما ذكرنا سريع الهروب من الذهن، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها) وعلى الحافظ لكتاب الله ان يكون له ورد يواظب عليه كل يوم. ويجب اغتنام العمر وتحديداً أوله للحفظ، وبخاصة ما بين الخامسة والثالثة والعشرين، لأن الحفظ في هذه السن أقوى وأرسخ. وأمر مهم جداً ألا وهو أن نكون قدوة جديرين بالاقتداء من أبنائنا وأهلنا وإخوتنا، فحفظنا للقرآن هو بحد ذاته حافز ودافع للأبناء وللأسرة كلها وحتى للمجتمع، وبالتأكيد فإن الطفل الذي يرعاه ابوه ويفعل ذلك على الدوام سيقوم بذلك من غير شك وبشكل لاشعوري، ويعمر القرآن المنزل كله بالتالي، وهذه هي السعادة الحقيقية. إن للحفظة والحافظات طرقاً جميلة في حفظهم ويجدر بنا تعلمها منهم، ويجدر بهم ايضا ان يوضحوها ويذكروها لغيرهم ويكون الثواب مضاعفاً بإذن الله، كما انه علينا تذكر ان هناك قدرات فردية تختلف من شخص لآخر وعلى الجميع مراعاة ذلك وتوجيه الشخص للأنسب وعدم توبيخه أو إهانته بأي شكل بل مساعدته وتشجيعه وتقديم أفضل ما يمكن له، بحيث يكون الجو مناسباً ودافعاً وحافزاً للطفل أو الشاب على البذل وتقديم المزيد. تعتبر حلقات تحفيظ القرآن الكريم هي الأنسب بطبيعة الحال، ولهذا نؤكد على دور المجتمع الحيوي بهذه القضية، كما نؤكد على دور المدرسة وتحديداً الأساتذة والمدرسين بسلوكهم وعملهم وقولهم وفعلهم، وبذلك يزرعون حب القرآن الكريم في نفوس الأبناء. إن عملية الحفظ هي من أساسيات الحياة الإسلامية الصحيحة، وهي من أركان الدعوة المهمة والأساسية، والحفظ هو المرحلة الأولى للتنفيذ، ولذلك علينا الحرص كل الحرص على ان يكون أبناؤنا في تطبيق دائم لكتاب الله، فبهذا تكمن سعادتهم، وبهذا وحده يتحقق النصر لنا ولأمتنا وبهذا نكون كما أراد ربنا سبحانه خير أمة أخرجت للناس. والله ولي التوفيق.