تحية طيبة وبعد: فقد قرأت في عدد الثلاثاء 8/11/1422ه وفي صفحة «عزيزتي الجزيرة» تعقيباً من الأستاذ الزميل سابقاً شمس الدين درمش على الأديب الأستاذ عبدالله بن إدريس بعنوان: «حاجتنا إلى سعة القلوب أشد من حاجتنا إلى سعة الأماكن»!! ولي على التعقيب تعقيب: 1 السعة في القلوب لفترة قصيرة: مجلس أو سَفرة وليس لإقامة طويلة. 2 الضيق في المكان يورث الضيق في الصدر والحرج الشديد وربما يؤدي إلى ما أدى مع الأستاذ شمس الدين من الذين ضايقهم وأوصل للشَّتم ولولا حرمة المكان لكان الضرب. 3 الشاهد الذي أورده الأستاذ شمس وهو: لعمرك ما ضاقت بلادٌ بأهلها ولكنَّ أخلاقَ الرجال تضيقُ جاء في غير محله فإن البلاد ما ضاقت بأهلها ولكن بالذين وفدوا وهم أكثر بأضعاف من أهلها مما دعا إلى التحديد والتنظيم لتتناسب الخدمات مع الأعداد. 4 بالنسبة للعفو والتسامح فهما مطلوبان ولكن العفو يكون عند المقدرة فهل كنت يا أستاذ شمس قادراً ثم أشهدت الناس على العفو أم أنك آثرت العافية على طريقة (إبعد عن الشر وغني له) فنحن نعلم أن العفو في القصاص مثلاً يكون بعد تمكين الوليّ من القاتل ثم يكون العفو مع الفارق . 5 قل لي بالله: عندما أشهدت الناس على العفو هل شكرك الرجل أم ضحك واستهتر بعفوك على طريقة (ابوعنتر.. الممثل السوري) عندما عفا الرجل (الذي لم يعتد على أبوعنتر) عن (أبو عنتر) فقال له: «لا تسامحني، تعال اعمل لي كفين» تحدياً . 6 قالوا إن العفو مع عدم المقدرة لؤم. 7 وفي هذه الحالة (الله يعين العافي الضعيف الذي لم يعفُ إلا خوفاً. فماذا يستطيع غير العفو؟). 8 قال الأستاذ شمس لا يفضض الله فاه : «وعفوي عنه بهدوء وسماحة وابتسامة قد لا أملكها في مكان آخر». ومن يسمع هذه الكلمات يظن أن الأستاذ شمس من فئة «أندريه ذَجيانت» أو «محمد علي كلاي» أو «هولك هوجان» وما عرف أن الاستاذ شمس من فئة خفيف الخفيف لا يتعدى وزنه 45 كغم (بالسروال والفنيلة). 9 قول الأستاذ شمس: «وعفوي عنه بهدوء وسماحة وابتسامة قد لا أملكها في مكان آخر» يدل على أن هذه الصفات الحميدة ليست أصيلة وليست خلقاً ولكنها تخلُّق. ورحم الله أبا الطيب الذي قال: وفي المرء أخلاق تدل على الفتى أكان سخاءً ما أتى أم تساخِيَا 10 وأخيراً ذكَّرتني شجاعة الأستاذ شمس بمعلقة عنترة بن شداد العبسي ولا بأس باستعراض بعض أبياتها. مطلعها: هل غادر الشعراء من متردّمِ أم هل عرفت الدار بعد توهُّمِ وقد اشتغل النقاد بهذا البيت واعتبروه تجديداً أو خروجاً على القديمِ لأن عنترة نعى على الشعراء وقوفهم على الأطلال المتردمة وبحثهم عن ديار الأحبة ومعرفتها بعد َلأْيٍ (بعد فترة) أو بعد توهُّم. ومع ذلك يخاطب عنترة دار عبلة (حبيبته وابنة عمه) ويصبِّح عليها بالخير: يا دار عبلة بالجواء تكلَّمي وعِمِي صباحاً دارَ عبلةَ واسلِمي «وقد حيّا رجلٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: عِمْ صباحاً يا محمد. فقال له صلى الله عليه وسلم: هذه تحية الجاهلية، وقد أبدلنا الله خيراً منها: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته». أو كما قال عليه الصلاة والسلام. قال عنترة: هلاّ سألتِ الخيلَ يا ابنة مالكٍ إن كنت جاهلةً بما لم تعلِمي وابنة مالك هي عبلة ومالك عمُّه وطبعاً عبلة جاهلة بما لم تعلم.. أم أنها تعرف ما تجهل ولم تعلم؟! يخبرْك من شهد الوقيعةَ أنني أغشى الوغى وأعَفُّ عند المغنمِ قلت: الله أعلم ثم يمدح شجاعته: ومدجَّجٍ كره الكماة نزاله لا ممعنٍ هرباً ولا مستسلمِ والواو في أول البيت هي (واو رُبَّ) وما بعدها مجرور برُبّ المحذوفة وهي حرف جر شبيه بالزائد (تفيد التقليل أو التكثير)، مدجج مجرور لفظاً مرفوع تقديراً على الابتداء. وهكذا يصف عنترة خصمه بالشجاعة وهذا يعني أن عنترة أشجع منه. جادت له كفي بعاجل طعنةٍ بمثقَّفِ صَدْق الكَعوبِ مقوَّمِ والمثقَّف قناة الرمح أو عوده وعصاه يعرضها صانع الرماح على النار ليقوِّمها ويقوِّيها. قال ابن زيدون في رسالته الجدية لابن جهور لما سُجن وعُذِّب: «فهل أنا إلا يدٌ أدماها سوارها، وجبينٌ عَضّ به إكليلُه، وسَمْهَرِيٌّ عرضه على النار مثقِّفه (والسهمريُّ الرمح) ولا أخلو من أن أكون بريئاً فأين العدل؟ أو مسيئاً فأين الفضل؟: إلاّ يكنْ ذنب فعدلُك واسعٌ أو كان لي ذنبٌ ففضلُك أوسعُ» وبالمناسبة من هنا المعنى الأصلي للثقافة. قال عنترة: فشكَكْتُ بالرمحِ الأصمِّ ثيابَهُ ليس الكريمُ على القنا بمُحرَّمِ طبعاً شكّ بالرمح ثيابه وبعدها جسمه. والقنا: الرماح جمع قناة مثل شجرة وشجر. ويقول عن حصانه بعد أن كثر وقع الرماح في صدره حتى تسربل (اكتسى) بالدم: مازلت أرميهم بغُرَّة وجهِهِ ولَبانه حتى تسربلَ بالدمِ فازورَّ من وقعِ القنا بلبانِهِ وشكا إليَّ بعَبْرةٍ وتحمحمِ والعَبْرة الدمعة والتَّحَمْحُم من أصوات الفرس لو كان يدري ما المحاورةُ اشتكى ولكان لو علم الكلامَ مكلِّمِي لكن الحصان لم يعرف المحاورة فلم يشتك ولم يحسن الكلام فلم يكن مكلمَ عنترة. وهذا يدل على أن عنترة أشجع من حصانه. ولم تمنع عنترةَ ضراوةُ المعركة وشربُ الرماح من جسمه والسيوف الهنداونية (الهندية) التي تقطر من دمه أن يذكر عبلة.. قال: ولقد ذكرتُك والرماحُ نواهلٌ منّي وبيضُ الهند تقطُرُ من دمِي فَوَدِدْتُ تقبيلَ السُّيوفِ لأنَّها لمعتْ كبارقِ ثغرِكِ المتَبَسِّم ولا يستغربَنَّ أحدٌ تقبيل عنترة للسيوف فتلك مهنته وأثر المهنة في صاحبها بيِّن، قالوا إن القصَّاب (الجزار، اللحَّام) يحكُّ رأسه بالساطور. وهذان البيتان كثيراً ما أُوردا في الأغاني (موّال) ولا ننسَ مبالغة عنترة بالفخر بشجاعته حتى أن الفرسان يدعونه: يدعون عنترَ والرماحُ كأنها أشطانُ بئرٍ في لَبان الأدهم (الأشطان: الحبال ولبان الأدهم: صدر حصانه) وما دمنا في مجال الشجاعة فلا بأس من إيراد قصيدة جميلة أخرى لعنترة أيضاً في الشجاعة.. قال عنترة: إذا كشف الزمانُ لك القناعا ومد إليك صرْفُ الدهرِ باعا (أي أوسع لك الزمان المجال) والباع طول مد اليدين عن آخرهما، أما الذراع فمختلف فيها فمنهم من عدّها من المرفق الى آخر الأصبع الوسطى ومنهم من عدّها من الكتف الى آخر الأصبع الوسطى. فلا تخش المنيةَّ واقتحمْها ودافعْ ما استطعت لها دِفاعَا واقتحام المنية (الموت والوفاة بالحرب) عند عنترة أسهل من شرب الماء. ولا تخترْ فراشاً من حريرٍ ولا تبكِ المنازلَ والبقاعَا (التي ستفارقها) وحولَكَ نسوةٌ يندبن حزناً ويهتكن البراقع واللِّفاعَا والبراقع جمع برقع وهو غطاء الوجه واللفاع مايستر الجسم كله وهو الثوب وكشف الوجه عند المصيبة وتمزيق الثياب من عادات الجاهلية، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصالقة (التي ترفع صوتها عند المصيبة) والحالقة (التي تحلق شعرها عند المصيبة أيضا) والشاقة (التي تشق ثوبها عند المصيبة كذلك) . يقول لك الطبيبُ: دواك عندي إذا ماجسَّ كفّك والذِّراعَا ولو عرف الطبيبُ دواءَ داءٍ يردُّ الموتَ ماقاسى النِّزاعَا قلت: والموت لا طبيب يداوي منه ولا دواء يشفيه. حصاني كان دلاّلَ المنايا فخاضَ غمارها وشرى وباعَا وسَيْفي كانَ في الهَيْجَا طبيباً يُداوِي رأسَ مَنْ يشكُو الصَّداعَا أنا العبدُ الذي خُبِّرتَ عنه وقد عاينتَني فدعِ السَّماعَا وقد حرره عمّه من العبودية على أن يدافع عن القبيلة. فعندما طلب منه عمُّه الخروج لملاقاة فرسان (ذُبْيَان) (في حرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان) قال لعَمّه: «العبد لا يعرف الكَرَّ (الهجوم على الأعداء) ولكن يعرف الحِلابَ والصَّرَّ» (حلب الغنم والإبل) فقال له عمّه: «كُرَّ وأنت حرٌّ». إذا الابطالُ فرَّتْ خوفَ بأسي ترَ الأقطارَ باعاً أو ذراعَا (من سرعة المهزوم تنعدم المسافات). أما بعد..فنرجو من الأستاذ العزيز شمس الدين أن يسعنا بحلمه أو تَحلُّمِه وأن يطوِّل بالَه علينا، وأن يعاملنا كما عامل صاحبه في الحرم: قال الشاعر: ولو وُزِنتْ رضوى بحِلم سَرَاتِنَا لمالَ برضوى حلمُنا ويلَمْلَمِ والحلم العقل أو الصفح والسراة السادة جمع سَرِي وهو السيّد وعسى ان يكون الأستاذ شمس منهم، ورضوى ويلملم جبلان. شاكرين للأستاذ شمس تسبُّبه في هذا الموضوع (وللجزيرة) الجريدة السمحة (وعزيزتي الجزيرة) الصفحة (بالمعنيين) والقراء الكرام والسلام ختام. نزار رفيق بشير - الرياض