إثبات الوجود وتأكيد حقيقة الذات المتوهجة بالقيم هو ما استوقفني لقراءة معلقة عنترة بن شداد العبسي، وفي إطار التحدي وإثبات الذات يشهر عنترة السيف ويمتشق الكلمة التي طالما فاق أثرها أثر السيف، وبقيت أصداء الأقوال تصم سمع الدهر، وبين شرف الكلمة وشرف السيف مضى عنترة يصحح مسار الوضع الاجتماعي، فسطر عنترة السيرة الملحمية التي جعلت منه بطلاً اقرب إلى الأسطورة منه إلى الحقيقة التاريخية. عمدت للبحث عن الوحدة الشعورية التي تؤلف معلقة عنترة فوجدت أن الفخر بالذات والفروسية والشجاعة والنبل في مواجهة الحب المحروم والقهر الاجتماعي هو الوحدة التي تؤلف المعلقة من بدايتها إلى منتهاها وتشدها بروابط متينة. الحب المحروم اليائس أفضى به إلى مخاطبة الديار الصم علها تجيبه كما هو شأن كثير من الشعراء: هل غادر الشعراء من متردمِ أم هل عرفت الدار بعد توهمِ يا دار عبلة بالجواء تكلمي وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي الشعراء جميعاً عبروا عن مشاعر الحب، ولم تغب عنهم ذكرياته ولم تمّح أطلاله وقالوا فيه فنونا من القول، لكن عنترة وحده يواجه حباً مختلفاً. انه حب عذري محروم دفعه إلى سمو المشاعر وإرهافها، إلى التسامي في الحب، إلى التسامح الخلقي: أثني علي بما علمت فإنني سمح مخالقتي إذا لم أظلمِ كما أفضى به إلى الفروسية والشجاعة: هلا سألت الخيل يا ابنة مالكٍ إن كنت جاهلة بما لم تعلمي يخبرْك من شهد الوقيعة أنني أغشى الوغى وأعف عند المغنمِ عنترة عندما يستعرض ذكريات الحبيبة وتمثل الحبيبة أمامه، ما ذاك إلا لتثني عليه وتفتخربه وليخبرها ربما بما تجهله عنه من شجاعة وعفة، فقد بث حبها فيه روح المغامرة: ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ مني وبيض الهند تقطر من دمي فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المبتسمِ إنه يبلغ قمة الوجد والحب والتضحية رأى في لمعان السيوف التي شرعت لقتله ثغر حبيبته فود تقبيلها ولو كلفه ذلك حياته ففي اللحظة البينية تختلط مرارة الموت بحلاوة الحب والحياة. تحدي الفوارس: إلى جانب الحب اليأس نجد ألواناً من التحدي الوجودي التكويني، لقد أدرك عنترة وضعه الذي أورثه سواد بشرته والعبودية. وكرد فعل مباشر للمعاناة النفسية من الواقع الأليم ظهرت عنده الرغبة في تحدي الموت، والفخر بالقتل والقتال، إننا أمام رجل يخاطر ويزج بنفسه في لهوات الموت، يتحدى الفوارس: ومدجج كره الكماة نزالهُ لا ممعن هرباً ولا مستسلمِ جادت له كفي بعاجل طعنة بمثقف صدق الكعوب مقومِ فشككت بالرمح الأصم ثيابه ليس الكريم على القنا بمحرمِ لابد من التأمل في شخصية عدو عنترة «فهو» مدجج بالسلاح ذو هيبة وإمرة وشجاعة وقد كره الكماة نزاله ومحارب عنيد «لا ممعن هربا ولا مستسلم» وهو نبيل المحتد «ليس الكريم على القنا بمحرم» وهو شيخ القبيلة وزعميها المطاع، وعندما يصور عنترة قتله يعبر تعبيراً رمزيا عن قتل الأداة التنفيذية لقوانين القبيلة، أو قل هو يقتل مبدأ الرق والعبودية يريد أن ينفذ رمحه في صدر من جعله عبداً مهاناً، يريد اعترافاً من المجتمع بوجوده. يبذل عنترة جهداً كبيراً في رسم صور الانعتاق والتحرر من أسر الذل والعبودية كأنه يبحث عن التكامل النفسي والاستقرار العاطفي، والانسجام الداخلي، أو هو يبتغي التعويض عن الحب اليائس وعدم المساواة الاجتماعية والسبيل الوحيد لذلك البطولة والقوة أو إثبات الرجولة بالاستبسال في المعركة والمخاطرة بالنفس والتصميم على الفوز والنصر: ولقد حفظت وصاة عمي بالضحى إذ قلص الشفتان عن وضح الفمِ في حومة الحرب التي لا تشتكي غمراتها الأبطال غير تغمغمِ إذ يتقون بي الأسنة لم أخِمْ عنها ولكني تضايق مُقدمي لما رأيت القوم أقبل جمعهم يتذامرون كررت غير مذممِ يدعون: عنتر والرماح كأنها أشطان بئر في لبان الأدهمِ لسنا نرى في بسالته وشجاعته وإقدامه على الموت بلا وجل أو تقهقر وتلقيه الطعنات عن قومه بلا توجع أو شكوى أو تذمر إلا محاولة للانسجام في المجتمع وتحقيق التوازن العاطفي. موقف الفارس والفرس: مازلت أرميهم بثغرة نحره ولبانه حتى تسربل بالدمِ فازورّ من وقع القنا بلبانه وشكا إلي بعبرة وتحمحمِ من الصعب التمييز بين موقف الفارس عنترة وموقف فرسه، فكلاهما يتلقى بصدره الرماح، ويهجم هجوما شرسا، وكلاهما موجع جريح، وكلاهما مرغم على الصراع رغم الجراح والألم، فكلاهما يكابد ويكابر في ألمه، والدموع التي يكتمها الشاعر يراها في عيني جواده: لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ولكان لو علم الكلام مكلمي إن الفرس الأعجم يبكي ويشتكي من هذا الواقع المؤلم، لكنه لا يقدر أن يبين عن شكواه والفارس يندفع في وجه المعركة التي ولدت فيه جروحاً غائرة، فكانت صرخات النجدة ودعوات الأبطال له شفاء من الحب المحروم والرق المهين والقهر والكبت: ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها قيل الفوارس: «ويك عنتر أقدمِ» إن هذا البيت بمثابة العبوة الناسفة التي تتفجر من أعماق النفس أو هو الحضور المكثف لطبقات الوعي، فالنفس المريضة من عقدة اللون والانهزام العاطفي والعبوديةالمشينة تبرأ من أزمتها، ويهدأ توترها، وتنجلي معاناتها بالكفاح والإقدام واعتراف المجتمع. البحث عن المساواة الاجتماعية: الصورة واحدة في الأبيات هي النيل من فروسية بني عبس حين يكره الكماة نزال ذلك المدجج إلى أن تتعالى الصرخات وتنكشف مدى حاجة العشيرة إليه إلى سيفه الخاص، عنترة وحده كما يزعم المنتصر على الأعداء لكنه وحده المهزوم حين كان يوازن بين وضعه في القبيلة وبين مؤهلاته، أو بين ما يقدم للقبيلة وما تقدمه له، فهو يملك ما لا يملكه سادة القبيلة يملك الموهبة الشعرية والفروسية. إنه يبحث عن صيغة جديدة للحياة، يقيّم الفرد فيها على أساس مواهبه وقدراته يبحث عن التحرر والانعتاق، وما صراعه في حقيقته إلا ضد مبدأ الرق الذي لا يمكن أن يتغلب عليه إلا بالحرب والقوة وفي وصفه المسهب لاقتحامه الموت، وهجومه الشرس، يعبر عن حلم في السيطرة على قوانين الطبيعة والمجتمع، وإعادة تشكيلها وفق رؤى خياله أو خواطره الذهنية. نخلص إلى أن شعر عنترة مجال لبروز وتخفيف الثقل الوجداني والنفسي الذي يعانيه، فاللغة الوحيدة التي يدركها المجتمع الجاهلي هي لغة «السيف» ومن هنا آمن بالقوة كخيار وحيد إلى الحياة الكريمة وعن طريقها يمكنه أن يفتت الحواجز الطبقية، وأن يخلق حياة عدل ومساواة وأن يحس الاستقرار النفسي والانسجام العاطفي، والتوافق الذهني، فهذه القصيدة دعوة للمساواة الاجتماعية، وطرح بديل لقيم المجتمع البالية بحيث تقوم على تقدير الأفراد على أساس من الفروسية والنبل الخلقي، والطهارة والسجايا النبيلة