نقيسها بالقدم، بالكيل، بالمتر،... و... أحياناً بالشِّبر!! ولكن: متى نقيسها بالنَّظر؟! تبعُد كلَّما كان البصر حاداً؟...، وتقرُب كلَّما اضمحلَّ؟... ومتى تقيسها بالإحساس، فكلَّما قوي ضاقت، وكلَّما فتر امتدَّت؟ متى تضيق المسافات بضيق الإحساس بها؟ ومتى تتسع باتساع هذا الإحساس؟! ألم يفكر أحدنا في المسافات التي تفصل بينه وبين القريب؟ ولذلك يقول: غدا القريب بعيداً!! بينما هناك من يقول: غدا البعيد قريباً!!... وفي مثل هذا هل فكَّر أحد في أن يطبِّق هذا البعد، وهذا القرب بقياس القدم، أو الكيل، أو المتر، أو حتى الشِّبر؟!... ألم نشعرْ بأنَّ الشِّبر يتحوَّل إلى مئات بل ألوف الكيلات عندما يفرغ الاحساس من الشعور بالآخر موجوداً فيه، أو متفاعلاً معه، أو نابضاً بنبضه؟... كم من الإخوة باعدتهم المسافات وهم تحت سقف واحد... وكم من الأحبة ضاقت بهم المسافات حتى التحم الإحساس وتوحَّدت المسافات وهم في منأى عن بعضهم... ومتى تُقاس المسافة بالجسد في ماديته، وتنتفي بالإحساس في معنويته؟... ومتى يكون العكس!؟... أوليس هناك من يدرُّ دمعه وهو يودِّع من يحب لإحساسه ببعده بعد الفراق؟ بينما آخرون يودِّعون وهم مطمئنون لأنَّ شيئاً من ذلك لن يحدث اعتماداً على الأحساس بالقرب...؟! أوليس هناك من يقيس المسافات بحركة الجسد، بينما الآخر يقيسها بحركة الشعور؟! متى نحس بالمسافات في ضوء ذلك، ومتى نقيسها إذن؟... من فكَّر في هذا الأمر وهو يُطلق آهاته حسرة على حواجز المسافات التي تفصل بينه وبين صديق، أو أب، أو أخ، أو أخت، أو زوج، أو ابنة، أو صديق، أو صاحب، أو رئيس، أو مرؤوس، أو جار، أو... أو... وهم يتحرَّكون أمام بعضهم الآخر، بل يقفون وجهاً إلى الآخر... إن المسافات التي تُقاس بالكيل، أو المتر، أو القدم، أو الشِّبر...لا تفعل في الإنسان ما تفعله مسافات المشاعر،... تلك التي يعيشها الإحساس،... ولا تلك التي تُقاس بالبصر على امتداده أو قصره... ذلك لأنَّ عين البصيرة وحدها، وعين الشعور وحدها ما يمكن أن يكون الحَكَم الصادق على قرب أو بعد المسافات... أمَّا تلك التي تُحدِّد زوايا الأرض، ومواقع ما فوقها حتى لو كان الإنسان ذاته، فهي لا وزن لها في علائق الإنسان... مع الإنسان، أو حتى مع خاصَّته، ممَّا يتفاعل معه... ويركن إلى الإحساس به... ومن ثمَّ يكون له أثره في حسِّه... فرحه وشقائه...، المسافات المادية يقطعها الإنسان بحركة قدميه... أمَّا المسافات المعنوية فكيف يقطعها الإنسان؟!... كيف يُلغي حواجزها النَّفسية؟ وكيف يُذوِّبُ جدرانها الفكرية، وكيف يُفتِّتُ فتورها؟... كم من بيوت هُدِّمت... وكم من صداقات تلاشت... وكم من آمال حُطِّمت... وكم من أحلام تبخَّرت... وكم من... وكم من... وكان في ذلك السَّبب الأوحد تلك المسافات الضَّاربة في الأثر حواجز تفصل بين هذه وذلك، وبين هؤلاء وهؤلاء، وبين هي وهو، وبين هم وهن...، وبين أولئك، وأولئك... فمن يُلغي عن الصدور ما يجثم فوقها من ثقل المسافات... ومن يبخِّر عن النُّفوس ضبابيَّة المسافات التي تُلغي الإحساس فيها؟ ومن يعيد للإنسان وللإنسان نقطة التَّلاحم في مسافة لا مسافة فيها بين الإنسان والإنسان؟ كي تتوطَّد العلائق، وتلتحم الأفراد، وتقوى الأواصر...، وتسعد النُّفوس... في علائق الإخوة، والآباء، والأصدقاء، والمحبِّين، والجيران، وكلِّ إنسان يبحث عن حجم المسافة بينه وبين الآخر... كي يكون القريب قريباً،والبعيد قريباً، وتُعمِّر القلوب ودَّاً وصفاءً وفرحاً.