وسعى تقياً صادقاً أوّابا وغدا مثالاً في حصافة عقله بل غاب يرجو رحمة وثوابا يا ابن الجبير وإن رحلت مودِّعا سيظلُّ رأيك قدوةً وصوابا قُدتَ المشورة مخلصاً وموفقاً ما ذمّ نهجَك حاسدٌ أو عابا عندما يكون المقصود بالرثاء علماً من أعلام الامة ونجماً أضاء آفاقاً واسعة متعددة على مدى نصف قرن من الزمان، وعندما يكون المقصود بالرثاء غزيراً في علمه وكرمه وحلمه ودماثه خلقه ورحابة صدره فإن اليراع يعجز أن يسطر جميع مآثره، أو أن يجود بتصوير ما يحس به الجميع تجاه فقيد منحه الله سرعة البت في القضايا وسداد الحكم وقوة الفراسة ونباهة التوجه وحدة الذكاء والرغبة في الوصول إلى الصواب والحزم في العمل والقوة في الحق، إلى جانب ماتميز به من أدب الحوار الجمّ وجاذبية الشخصية وتواضع القول والفعل والزهد في الدنيا وصفاء السريرة ونقاء الطوية وكرم الضيافة، ذلكم هو الشيخ محمد بن جبير رئيس مجلس الشورى. وحسبك به في مجال القضاء ذكاءً فطرياً ونزاهة وعفة وإقناعاً للخصوم وتعليلاً للاحكام. حقاً، لقد اتسم بمعالجة القضايا ذات الابعاد الاجتماعية من خلال زوايا مختلفة، ولم يقتصر على تناولها من زاوية آحادية الجانب مما قد يسبب خطراً على المجتمع، بل تجاوز تلك النظرة في كثير من أحكامه إلى النظرة الشمولية المتسمة بالمعالجة الاصلاحية ذات الزوايا المترابطة فجاءت أحكامه متكاملة متصلة الحلقات. وفي المسائل العامة يبحث عن تحقيق المصلحة العامة بقدر ماينفع، يعطي الرأي بكامل أبعاده من خلال صحة التصور، والقدرة على الاستيعاب وفهم الخلفيات والموازنة بين البدائل واختيار الاصلح والبت في الموضوع بعد المشورة والتأمل. لقد عرف عن فضيلته في هذا المجال صدق اللهجة ووضوح الفكرة وسمو الهدف وسداد الرأي، ولا غرو في ذلك فقد استثمر في ذلك خبرته الطويلة المتعمقة التي استقرأت الماضي بطبيعته، وعايشت الحاضر بجوانبه، واستشرفت المستقبل بنظر ثاقب وحدس بعيد الرؤية. وفي ديوان المظالم سبق أن حدثني زملاؤه انه كان يضفي على الاجتماعات الرزانة والهيبة والهدوء والموضوعية مع اللجان التي كان يرأسها، مع سعة البال والتأني في الحكم للوصول إلى الحقيقة المنشودة، وبالنسبة للقضايا كان حريصاً على أن تكون النتائج أو الاحكام الصادرة من الدوائر القضائية محققة للعدل والانصاف مستوفية كل مايمكن استيفاؤه من بينات وإجراءات من خلال الاطلاع على الوثائق الشرعية أو النظامية أو سماع ما يدلي به أطراف القضية. وإضافة إلى عمله الشرعي فلدى فضيلته إلمام بأنظمة الدولة واللوائح المختلفة واستيعاب ما تتضمنه من قواعد وأحكام. لقد عرف عن فضيلته الانصات إلى جميع الآراء وتفهم مايقوله الطرف المتكلم بتأمل وسعة بال، ثم تبني الرأي الصالح بتجرد ورغبة في تحقيق العدل. كان في حياته الوظيفية جامعاً بين العلم الشرعي والفقه النظامي بما يتلاءم مع قواعد الشرع ويسير على منواله وبما يحقق المصلحة الراجحة. أما في مجلس الشورى فقد تميز بالانضباط في الحضور ولم يصرفه عن إدارة الجلسة على مدى السنوات التسع الماضية من عمر المجلس في تكوينه الحديث سوى مهمة رسمية أو مرض شديد، واستطاع بحكمته وحنكته مع زملائه أعضاء المجلس أن يمضي هذه المدة الطويلة دون أن يتعذر انعقاد المجلس لنقص النصاب أو إلغاء الجلسة لخطل في النقاش أو مشاجرة في الرأي. كان في المجلس متزناً عادلاً منصفاً أعطى كل عضو من أعضاء الجلسة حقه في الكلام، وعندما يخرج أحد الزملاء عن الموضوع أو يسهب في الجوانب الفرعية على حساب الموضوع العام كان رحمه الله يرشد ذلك العضو إلى العودة إلى أصل الموضوع محل النقاش بأدب جم ولباقة متناهية وموضوعية محددة. ومن مكتبه لا يُخرجه من مجلس الشورى بعد صلاة العصر إلا مراعاته لزملائه الموظفين، ومن النادر أن يغادر المجلس وعلى مكتبه معاملة واحدة، فكان دائما وأبداً يتبع منهج ما يسمى «بعملية اليوم الواحد» أي أن كل معاملة تصل إلى مكتبه تنتهي باليوم نفسه، بخلاف تلك المعاملات التي تجب دراستها في المجلس، فتلك تُعطى حقها من التداول والتشاور حتى تخرج مكتملة الدراسة دون أن يتدخل معاليه في مسار القرارات. كان متفانيا في سبيل العمل، وهب حياته لخدمة هذا البلد حكومة وشعبا، وأذكر على سبيل المثال انني جئت إليه قبل أربع سنوات بعد نهاية جلسة مجلس الشورى مباشرة وفي قاعة المجلس وأحضرت له قصاصة من إحدى الصحف تقول «إن الادمان في العمل يُعجّل بالوفاة» لكنه ابتسم معارضا هذا القول ومؤكدا بأن الاستمرار في العمل يزيد الشخص بهجة وحيوية ويبعده عن الكآبة والياس. واستمر في تكريس جهده في مجلس الشورى وفي مجمع الفقه الاسلامي وهيئة كبار العلماء يؤدي واجبه على أكمل وجه حتى اختاره الله إلى جانبه. اضافة إلى ذلك، وضع الشيخ ابن جبير صفة التودد للناس والتحبب اليهم تاجاً فوق رأسه يراه الجميع. لقد نال قسطا كبيرا من النبل والكرم والعلم وغيرها من مكارم الاخلاق وتفوق على الكثير في دماثة الخلق والاصغاء دائماً إلى محدثه بأدب العارف المتواضع حتى في وقت الضيق، وتلك صفات عرفها الجميع عنه. طلق المحيا كريم النفس ليّنها رحلتَ ما انقبضت منك الأسارير على مدى عملي معه في مجلس الشورى في الدورات الثلاث لم أعهده إلا مبتسما كاظما للغيظ ، محبا للجميع. وهو مع ما وهبه الله من وظيفة قيادية طوال حياته الوظيفية لم يعش في برج عاجي ولم يتقمص شخصية تعزله عن جيرانه وأقاربه وزملائه، بل كان بابه مفتوحا، وعندما نال حظا عظيما من دنيا الوظيفة سخرها لخدمة الوطن والمواطن دون محسوبية جاهلية أو تحيز عائلي أو استغلال لنفوذ وظيفي. وعزاؤنا أن الشيخ ابن جبير لم يترك هذه الدنيا قبل أن يقدم سجلا علميا ووظيفيا واجتماعيا حافلا بالعطاء والانجاز. وإنصافاً للشيخ ابن جبير فانني لم أعهد في حديثه لجاجة، أو في رأيه فجاجة أو في خلقه صفاقة أو في منطقة اعوجاجا، ولم ألحظ منه غيرة علمية أو حسدا ماديا، أو نقدا جارحا أو تعليقا لاذعا. كان من أجمل ما يتحلى به مع جلسائه هو الاصغاء إلى أحاديثهم والتجاوب السار لما يقولونه، وكان مرهف الحس وهو يستمع إلى من هو أصغر منه سنا أو أقل علما أو أضيق معرفة، بل كان فوق ذلك كله يستمع إلى من يتحدث إليه ويصغي بكل حواسه، رغم أنه في كثير من تلك المواقف يملك المعرفة أكثر من محدثه لكنه الأدب الجم الذي تحلى به الشيخ ابن جبير وتميز به عن الكثير، فلم يأسره حسد علمي أو غيرة مهنية، وهو بهذا النهج لم يقاطع أحدا في الحديث أو يحجر على أحد رأيه أو يصادر فكره، بل كان يتلذذ بأخذ ما لدى الآخرين من تخصصات متنوعة أو جزئيات في المعرفة حتى لو تفوق عليهم بالكليات المعرفية متشوقا إلى زيادة علمه متمثلا بالأثر الاسلامي «أطلبوا العلم من المهد إلى اللحد» وبالأثر الاسلامي الآخر «أطلبوا العلم ولو في الصين»، وهو بهذا كان مقتنعا بأن العلم ليس له بعد زمني أو مكاني وليس حكرا على أحد: كائنا من كان، وهو بهذا أنموذج يُحتذى بعدم الاستعلاء أوانقباض النفس عندما يتحدث الآخرون. لم أعهد أنه استأثر بالحديث في الجلسات الرسمية أو الشخصية أو حاول تقزيم الآخرين أو تهميش أدوارهم أو التقليل مما يقدمونه من آراء أو التشاغل عن المتحدثين أو توجيه دفة الحديث للجانب الذي يعرفه فقط، كان واضحا في رأيه وضوح الشمس سمحا كريما لينا. تراه إذا ما جئته متهللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله ومع هذا التميز بتلك الصفات النبيلة والسجايا الحميدة وتكريس جهده لخدمة هذا البلد: علما وفتوى وقضاء وإبداء للمشورة وللرأي السديد كان له حضور واسع في الساحة الاجتماعية، فكان يلبي دعوة الصغير والكبير وكان يقوم بأداء الواجب تجاه زيارة المريض أو تعزية المصاب، بشوشا يقوم بواجباته الاجتماعية، ذا صلة أخوية بفئات المجتمع وشرائحه المختلفة متسما بالدعابة ورحابة الصدر وحلو الكلام وعدم مقاطعة المتحدث. وباختفاء هذا النجم فان الوسط القضائي والعلمي وأوساط الشورى والساحة القيادية خسرت رجلا من مسؤولي الدولة ورموزها البارزين الذين اتسموا بالعدل والانصاف والرويّة وتفضيل الغير على الذات. حقا: لقد استقر في الذهن على مدى خمسين عاما أن اختيار الحكومة لابن جبير: قاضيا ثم رئيسا للمحكمة، ثم رئيسا لديوان المظالم ثم وزيرا للعدل، وأخيرا رئيسا لمجلس الشورى لم يكن إلا قرارا حكيما مبنيا على بعد نظر ولاة الامر وصائب رأيهم في اختيار هذا الرجل الصالح للأماكن المناسبة. وأخيرا رحم الله شيخنا ابن جبير ورزق زوجته وأولاده وبناته وأحفاده وزملاءه ومحبيه وهذا البلد حكومة وشعبا الصبر والسلوان بفقدان هذا الشيخ الذي ندعو الله أن يجعل قبره روضة من رياض الجنة وأن يقر عينيه بجنات النعيم. عضو مجلس الشورى