محمد العباس هذا الاسم فضاء ثقافي وظاهرة فكرية ونقدية تحتل مساحة يعتدّ بها في خطابنا المعرفي؛ له خصوصيته في المقاربات النقدية إذ تحتشد بحمولة متنوّعة ومبهرة من ثقافة العصر، واطّلاع واسع على إبداعاته من ناحية، وجرأة غير مألوفة على التوصيف والتصريح والتفكير من ناحية أخرى. يعمد محمد إلى اختيار البقاع الأكثر جدليّة في حقولنا الإبداعية ،كما يتضح من (قصيدة النثر) و(شعرية الحدث النثري) وكتاب (حداثة مؤجلة)، فهو معني بصدامية كتابيّة عن منتجه تستفزّ المألوف وتخرجه من قوقعة المسلمات في الإبداع والنقد والثقافة ، في خصومة مع الذاكرة ، أوْلى السرد جهدا استثنائيا من كتاباته؛ لأنه يختزن ويختزل الأنساق الأساس في المسكوت عنه والمصرّح به في حياتنا الاجتماعية والثقافية والفكرية واستشرافاتنا المستقبلية، كما في كتابه (نهاية التاريخ الشفوي) التي ينظر فيه للرواية على أنها جهاز هدمي بنائي في آن على حد تعبيره؛ لذا يفتقد في الرواية الإفضاء الصادم وغياب فعل المكاشفة ، ويحتفي بسقوط التابو ، وينعى على الروائيين صدورهم عن الموروث الشفاهي، وعلى ما سمَّاه رهاباته المزمنة واحتفالهم بالسيريّة واتكائهم على مرجعياتها النرجسيّة ، وحرصهم على إعادة التمركز في العلاقات الاجتماعية. ويرى أن السرديات الرسمية تحتل بعض ملامح المجتمعات والأمم وأن السرديات الشعبية هي التي تتمم الصورة وتمنح المشهد وجهه الحقيقي ، ولا يبدو أن محمد العباس راضيا عن المنجز السردي في المملكة ولا عما حقّقته الحركة الحداثية من منجزات ، وهذا ما يفهم من كتابه (حداثة مؤجلة). يرى أن ثمة تغييبا للعقل وتبليدا للحواس في بعض الخطابات ونقصا في مفهوم المواطنة وتفشّيا للعنصرية ، وطغيانا للرافعة الإعلامية على المواصفات الإبداعية ، في نقد صريح لبعض من انتسبوا إلى الإبداع من خلال التلميع والبريق الإعلامي الذي يخطف الأبصار ، ولعل فيما قاله قراءة متقصّية للواقع الثقافي ؛ ولكنها ربما تبدو قاسية بعض الشيء لأنها استبعدت الخصوصية التاريخية لتلك المرحلة ؛ فما أشار إليه من توصيف للأعمال الروائية من نتاج لمرحلة تاريخية ذات خصوصية لا يمكن إغفالها، فضلا عن أنها أعادت إنتاج الواقع الاجتماعي بما انطوى عليه من تشوّهات فرضته طبيعة الثقافة الشعبية التي سادت لسنين طويلة أهدرت فيها فرداتية الذات إلى حد ما ؛ فكان لابد من بروزها والبحث عن سبل تحققها على نحو أو آخر يشير إلى ثقافة الصالونات ، ويتحفّظ إزاء ظاهرة الانتشار الإبداعي خارج حدود المحلّية ، وما سمَّاه حجز مكان في وعي الآخر مكنيا بذلك عن الترجمة إلى اللغات الأخرى . ويتوقف عند دور المؤسسة بوصفها رافعة إبداعية ؛ وهي رؤية تتقرّى بعض ملامح واقعنا الثقافي في العالم العربي ؛ وربما بدت آراؤه صادمة خشنة عابرة للوثوق ومتحدية للارتدادات المناوئة، ولكنها تصيب بعض المفاصل التي اعتراها الوهن في نتاجاتنا الإبداعية ، وربما ننكر حدّتها بسبب ما ترسّخ في تكويننا النفسي والثقافي مما ورثناه من الأنساق التي تسرّبت إلى وعينا ، ولعلنا نجد فيه بعض الحدّة التي يستفزها الخلل الصادم في خطاباتنا الأدبية والإعلامية والاجتماعية مسوّغا لذلك ، وليس ثمة شك في أن مواقع الاتصال الاجتماعي احتشدت بجحافل الأغبياء والعلماء على حد تعبير (إمبرتو إيكو) على نحو ما ارتآه محمد العباس التي حدت به إلى كتابة (تويتر مسرح القسوة). ولمحمد العباس رؤية للمثقف العربي مشيرا إلى ما سمَّاه (وهم الاصطفاء ) لدى طائفة من المثقفين العرب ، تلك النرجسية التي تدخل في روع صاحبها أنه المتفرّد المتميّز ، وهو داء قديم حديث ، ولكنه يتحوّل إلى مشكلة حقيقية حين ينخر في شرايين الإبداع ، وتضمر معه فاعلية الإنتاج التي ينتظر أن تكون جوهر الأداء الثقافي والإبداعي ، ويتحدث عما يسميه (التوتّر الخلاق) ؛ لذلك يصطف إلى جانب المثقف المختلف فيه والمختلف عليه. ويلامس العباس سقف المعضلة الثقافية والإبداعية عندما يتحدث عن الّلوبيات الثقافية التي طالما عانت منها الساحة الإبداعية في كثير من الأقطار العربية تحت مسمى (الشللية)، خصوصاً إذا كان ثمة مغانم تتوخّاها تلك التجمعات تتعلّق بالنشر أو الظهور في الفعاليات الثقافية ، ويصف الانتماء إلى المؤسسة بالارتهان ، وهذا أمر واقع ؛ ولكن ليس على إطلاقه؛ فتنظيم الحياة الثقافية في إطار فضاء واسع من الحرية لا يعد ارتهانا لها ، ولكن إذا تجاوز ذلك الانتماء إلى الارتباط العضوي بكافة أشكاله متجاهلاً هامش الحرية المطلوب يعد كما وصفه بدقة (استنقاعاً في الهامش)، وليس هناك أدنى شك في أن جهود محمد العباس النقدية وآراءه الثقافية ذات مصداقية وأهمية تستحق الاحتفاء بها ودراستها، وجديرة بوضعها في سياقها من الخطاب الثقافي العربي التنويري . هذا بعض ما نعرفه عن محمد العباس الذي يعد تكريمه تكريما للمثقف كما ينبغي أن يكون. ** **