السينما بالنسبة لصنَّاع الأفلام هي عُيُون هيتشكوك، فهو المخرج الأول، ولا أقصد بذلك أن هيتشكوك هو أول من أخرج الأفلام، لأن تشارلي تشابلن وفريتز لانغ والأخوين لومير وارنست لوبيتش وسيرغي ايزنشتاين وكل هؤلاء أخرجوا أفلامهم، واستطاعوا أن يلمسوا جوهر السينما، ولكن تختلف تجربة هيتشكوك عن البقية لسببين، وهما: أ. هيتشكوك هو النموذج الأول الذي حدد دور المخرج بمعناه الحديث، وتحديداً بوعيه الشامل بالوسيلة السينمائية على مستوى إدراك اللغة البصرية للتعبير عن الفيلم، وعلى مستوى التلاعب بالأبعاد النفسية عند التفرج. ب. تنطبق على هيتشكوك وصف المخرج الأول بنفس المعايير التي جعلت أرسطو يُصنف تحت مسمى: المعلم الأول، ومن بعده الفارابي؛ المعلم الثاني، وهلم جراً. إذن هيتشكوك هو المخرج الأول، لأن سينماه تتميز بعناصر تجعله يتفرد فيها، ويمكن تلخيصها بشكل سطحي في هذه العبارة: «يقدر يخوف المتفرج» ولكن حقيقةً المسألة أعمق من ذلك، والمقصود أنه يستطيع التأثير على الجمهور بحيث يحفز نفوسهم على التفاعل مع أحداث الفيلم. كانت السينما في بداياتها تعتمد على شعبية نجوم الشاشة، ولم يكن للمخرجين قيمة تُذكر، وكانت شهرتهم داخل بيئة صناعة الأفلام والوسط الفني فقط. وكانت أعمال المخرج مقصورة حول الإشراف على فريق العمل المتواجد خلف الكاميرا، فلا يراهم الجمهور، وبالتالي حتى يبرز المخرج لابد أن يكون استثنائياً بحيث أن يكون صاحب رؤية خاصة، وأصيلة، وفريدة، وهذا ما فعله هيتشكوك، حيث بدأ أولاً من بريطانيا، ثم انتقل إلى هوليوود، وعمل داخل المؤسسات الإنتاجية الضخمة لهوليوود، و تدريجياً، حتى أصبح يلاحظ الجمهور أن الأفلام التي يقوم بصناعتها هيتشكوك مختلفة عن كل أفلام عصره، ولكنها متشابهة فيما بينها من حيث تحكم هيتشكوك بأدواته السردية التي تجعل المتفرج يعيش تجربة نفسية وحسية متناقضة، سواءً نمط أفلام الرعب أو الإثارة أو حتى الدراما الرومانسية. ولنقل أن لكل مخرج حقيقي طريقته بالسيطرة على كل ما يجري داخل الشاشة، مثل عوالم «الأراجوز» فيها الدمى ترقص بحبال، وهكذا الإخراج تماماً، فالشخصيات ترقص بحبال غير مرئية، يتحكم بها المخرج. بدأ هيتشكوك – مثلما ذكرنا سابقاً – بصناعة الأفلام الصامتة، وحقق نجاحه الأول عام 1929 عبر فيلم «ابتزاز» «Blackmail « صامتاً ثم حوله ناطقاً، وهنا كانت اللحظة الأولى، والانطلاقة الأولى، فهو عاصر الآباء المؤسسيين للسينما، ولكنه اتخذ لنفسه مساراً خاصاً به، وبدأ بفرض أسلوبه – و (كما يذكر المخرج الأمريكي براين دي بالما: في مقابلة ببرنامج ديك كافيت شو عام 1978) «هيتشكوك هو الرائد الأول الذي علمنا كل قواعد صناعة السرد البصري... وهو يعرف أين يضع الكاميرا بالضبط... وهو عبقري.. أحاول دائماً عند صناعة أفلامي أن أنظر عبر عيون هيتشكوك...» ويتحدث أيضاً في نفس اللقاء عن مسألة مهمة وهي: إن هيتشكوك لم يقدم فعلياً كل ما يملك، لأنه ظهر في زمن الإستديو، وزمن التدخُّل غير المبرر من المنتجين لتغيير طريقة تقديم الأفلام، كأن لو لاحظوا أن زاوية اللقطة غريبة، أو أن الكاميرا موضوعة في مكان غريب، يتدخلون ويرفضون اللقطة ويطالبون بتغييرها، وتعديلها، وهم بلا معرفة بعبقرية المبدع، وذلك لأنهم لا يملكون خيال الفنان، ولأن أعينهم تعودت على قوالب معينة من الرؤية، وبعدها أصبحوا لايقبلون غير هذه القوالب المحددة، لذا وقع كثير من المخرجين المبدعين ضحية حذلقة وتنطع المنتجين، غير المخوليين للحكم على العمل الفني. وكان هيتشكوك يصارع مع هؤلاء وضدهم. وعند عرض أفلامه أمام الجمهور كان يربح الرهانات على خياراته. أحياناً، عندما يشاهد بعض الجمهور فليماً لهيتشكوك، يستاء من مستواه، ولهذا توضيح مهم جداً؛ يصعب الحكم على الأفلام خارج سياقها الزمني، لابد أن يدرك المتفرج طبيعة اللغة البصرية للأفلام القديمة، تماماً كالأدب، والشعر، فالأدب الجاهلي لايفهم مثلما يفهم الأدب الحديث، ولا يستطيع أحد أن يقرأ شعر أمرؤ القيس دون الرجوع للمعاجم، ومعرفة لغة ذلك العصر، بينما السينما رغم قصر عمرها إلا أنها بشكل مقارب تشبه الأدب من حيث أن لكل زمان لغته وأدواته وأساليبه الخاصة. وكان هيتشكوك محل اهتمام كل المخرجين الذي طوروا السينما ووضعوا لبنات مؤثرة، وأولهم المخرج الفرنسي المهم فرانسوا تروفو، وفي هذا أريد أن أقول قصة طريفة عن المخرج الفنلندي العظيم أكي كيروزماكي: يقول أنه كان يقرأ كتاب تروفو «مقابلات مع هيتشكوك»، وعندما سئل تروفو هيتشكوك عن قضية تحويل الأدب إلى سينما؟ قال هيتشكوك: ليست كل الأعمال الأدبية بمقدورها أن تتحول إلى أفلام سينمائية وخصوصاً جواهر الأدب مثل رواية «الجريمة والعقاب» لديستوفسكي، فقرر لحظتها كيروزماكي الشاب أن يثبت عكس ما يقوله هيتشكوك، وقال: «دعني أريك أيه الرجل العجوز كيف يقتبس الأدب العظيم إلى السينما»، وصنع فلمه الأول «الجريمة والعقاب» عام 1983. ثم يقول لاحقاً أنه تعلم من هذه التجربة كثيراً، وأول الدروس هي أن هيتشكوك كان صادقاً، فحتى لو اقتبس الأدب العظيم إلى السينما تتغير كينونته، ويصبح جنساً فنياً مختلفاً، لن يصل تأثيره مقدار التأثير الأصلي بل سيتغير بتغير الوسيلة التعبيرية نفسها. الزُبدة؛ بالنسبة لي أعظم ما فعله هيتشكوك هو تحويل السينما من تجربة ذهنية فقط إلى تجربة حسية، بمعنى تحويل القصة من صور تلتقطها العين ويحولها الدماغ إلى معاني (تجربة ذهنية) إلى قصة تلتقطها العين وتتفاعل معها الحواس، فيصاب الإنسان بالخوف، وتحديداً الخوف، لأن الخوف شعور غامض، تشترك فيه سائر المخلوقات الحية، ولأن الخوف في جوهره ترميز للموت، فيساعدنا الخوف أن نتذكر أننا أحياء. إذن؛ عندما نجح هيتشكوك، نجح لأنه جعل السينما أكثر من مجرد صور، وتفاعل ذهني، فجعلها أشياء محسوسة، كتجربة حسيّة وذهنية معاً؛ كشيء يشبه الحياة تماماً. ** **