أورد صاحب زهر الآداب مقالات لأهل الصناعات المختلفة يصفون بلاغة الكلام على طريقة صناعتهم، فيهم الجواهري، والعطار، والصائغ، والصيرفي، والحداد، والنجار، والنجاد والنائح وغيرهم. تتراوح الصفات التي تحدث عنها هؤلاء، وينبغي أن يتصف بها الكلام حتى يكون بليغاً بين دقة تعابير الألفاظ عن المعاني، وعمق التفكير، والتأمل، وتناوله بالنقد والمراجعة حتى تستوي جوانبه. وإذا ابتعدنا عن مسألة أن هذه الكلمات استعارة يقصد بها ما تدل عليه على طريقة البلاغين في المشبه والمشبه به وحذف أحدهما، وأخذنا بعين الاعتبار أن هذه اللغة التي استعملها هؤلاء المتحدثون هي لغتهم التي يستعملونها عند الحديث، فهي طريقتهم في التعبير، وتصوير الأشياء، ما يعني أنهم يقصدون بها ما تدل عليه على وجه الحقيقة، وأنهم يتصورون الكلام على هذه الصفة. نحن عادة عندما نتكلم عن «الكلام» جماله وقبحه، ونشازه ومناسبته نربط إدراكه بما يسمى «الذوق»، وهو عادة يستعمل في الطعام، فإذا ذاق الإنسان الطعام أكل جزءاً منه أو جربه، فهو الجزء من الطعام الذي يمنح الإنسان القدرة على الحكم عليه أو هو الفعل نفسه، ثم اتسع معناه إلى تجريب أشياء أخرى. وعلى الرغم أنها في الأصل لأكل الجزء القليل الذي يمكّن من تكوين تجربة كاملة ينتج عنها حكم، فإنها بعد ذلك تطورت دلالياً لتطلق على الحكم نفسه، وأصبح الذوق الملكة التي من خلالها يستطيع الإنسان أن يميز جيد الطعام من رديئه، ثم اتسع معناها من الطعام إلى كل حكم يتصل بما لا يفهم سببه خاصة الآثار الفنية بأنواعها المختلفة إما من حيث الاستحسان أو الاستقباح، ويوصف عادة بأوصاف كاللذاذة أو العذوبة، أو المرارة أو الكراهة أو التقزز مما هو من أحوال النفس. لكن تظل مسألة الذوق مسألة معقدة، وغير ثابتة ومحكومة بعوامل عدة من خارج الإنسان وداخله، ولذا فإن الاعتماد عليها ليس مأموناً ولا سليم الحكم. وحين ننظر إلى أقوال أصحاب الصناعات نجدها تسعى بصورة أو بأخرى إلى عدم حصر الذوق في جانب واحد، أو جعله بحاسة واحدة. وإذا كان «الذوق» حاسة مستقلة تقوم على الطعم، فإن هذا يعني بصورة من الصور أنه يضم إليها حاسة أخرى وهي الشم أو اللمس أو النظر أو السمع، ويعني أنه يقوي الحاسة الأولى بحاسة أخرى، وهو ما يمكن من فهم الذوق أو يوجه الذوق ويحدد مساره وملامحه. وإذا كان الإحساس ببلاغة الكلام أمراً يعود إلى النفس واستجابتها لما يتلى عليها، مما يدخل في العواطف أو الأهواء كما يسميه بعضهم، فإن ربطها بالحواس يسبغ عليها بعداً محسوساً مما يعني تحويل البلاغة من أمر معنوي إلى أمر مادي يدرك باللمس أو الشم أو السمع أو النظر. نجد هذا في حديث الجوهري الذي كان مدار إعجابه بالكلام في «حسن نظامه»، وهذا لا صلة له في نظم عبد القاهر، وإنما هو من نظام الجوهر أي إدراجها في سلسلة الذهب أو في خيط الحرير، فالجوهري ينظم عقود اللؤلؤ وينظر إلى الكلام كما ينظر إلى اللؤلؤ، ولأن اللؤلؤ لا قيمة له إلا إذا ثقب من قبل الصائغ، فإن الكلام يحسن إذا ثقب بالفكرة، ويقصد بالفكرة التفكير أي التأمل والنظر. فالكلام لديه در لا قيمة له إلا إذا ثقبه الفكر، ونظم في خيط مع غيره من الكلام حتى يكمل نظامه. في حين أن إعجاب العطار يكمن في «طيبه»، فيقول: «أطيب الكلام»، واختيار كلمة «أطيب» لتتناسب مع صنعته التي تعنى ببيع العطور، أو ما يسمى أحيانا ب»الطيب»، وهو الذي يشم ولا يرى. ويظهر هذا الإحساس لديه في تصوير البلاغة في تكملة الحديث حين يقول: «عجن عنبر ألفاظه بمسك معانيه»، فالألفاظ ذات عنبر والمعاني مسك، وكلاهما نوع من أنواع الطيب، ما يعني أنه يرى أن الألفاظ تحتوي على قدر من الجمال كما يحتويه المعنى وأن هذا البلاغة تكتمل بهذا الترابط بين الطيبين. وإذا كانت هذه اللغة قد سادت في وصف الكلام بين الشعراء والنقاد حتى أصبحت مألوفة لا توحي بشيء جديد، فإن حديث الطبيب والكحال غير ذلك، ويظهر تميزه في وصفه لمنزلة البلاغة من الكلام، وتصوره للكلام بلا بلاغة، والعلاقة بينهما لدى الطبيب كالصلة بين الداء الذي يصيب الأمعاء والدواء، فالشبهة أو عدم الإبانة هو الداء والبيان (البلاغة) هو الدواء الذي إذا أصاب الكلام شفي من سوء الفهم، فالعلة لديه في الفهم والإفهام والبلاغة هي مقدار تحقيق ذلك. ومثل ذلك أيضاً الكحال الذي يرى أن الشبهة هي رمد الكلام، وأن البلاغة هي الكحل الذي يزيل الرمد، وهنا يتحدد كسابقه انعدام البلاغة بعدم الإيضاح واللجاجة التي تنشئها اللكنة، وتتحدد البلاغة بزوالها واكتمال آلة الفهم والإفهام، وهذا يحد البلاغة بحد محسوس معين هو الإيضاح والإبانة والإفهام، وهو ما يجعل انعدام البلاغة سقم في الكلام وعيب. وهذا يذكرنا بوظيفة النحو عند القدماء الذي يعني بالصحة والخطأ، وإزالته من الكلام، ويكشف عن رؤية الطبيب والكحال عن البلاغة من خلال لغتهما.