قال معالي الأستاذ إياد بن أمين مدني، الأمين العم السابق لمنظمة التعاون الإسلامي، وزير وزارة الحج سابقاً، وزير الثقافة والإعلام سابقاً: بلاط صاحبة الجلالة (الصحافة)، يقترن في كثير من الأحيان، وفي معظم الأذهان بالبريق والأضواء، بريق الأسماء اللامعة التي تظهر على صفحات الصحف، وأضواء المشاهير منهم، ممن تجد مقالاتهم صدى ومتابعة لدى القراء.. إلا أن هذا جزء من بلاط صاحبة الجلالة، وليس كل البلاط، فللبلاط «مطبخ»، تصب فيه كل المواد التي يراها القارئ مبوبة مرتبة، في إخراج جذاب، تصب هذه المواد بتفاصيلها، ومكراراتها، وتنوعها وعُجرها وبُجرها ليعمل عليها «طهاة» المطبخ مشارطهم، تبويباً، واختصاراً، وتنسيقاً، وتصويباً، وترتيباً، وإخراجاً، وهو ما يراه القارئ، أما روائح المطبخ، وصخبه وضجيجه وركضه ولهاثه، واختلاف التوجهات بين العاملين فيه.. فيظل خلف الأبواب، في حركة دائبة مستمرة بعيداً عن أعين القراء. ومضى معاليه في سياق توصيف أكثر بلاط ممتد في ذاكرة التاريخ الإنساني، قائلاً: كما قد يغيب عن بلاط صاحبة الجلالة، أن البلاط وأضواءه وبريقه في حاجة لأساسيات صناعة الصحافة؛ فهناك مطابع يجب أن تُنشأ، وورق يجب أن يشترى ويخزن، ويوفر في أوقاته، وأحبار ومواد طباعة، لا بد أن تُجهز، ثم لا بد أن تصل أعداد الصحيفة إلى منافذ البيع، وعناوين المشتركين في ساعات الصباح الأولى، ليجد القارئ صحيفته طازجة وقت ما يريد أو تريد، وكل ذلك في حاجة إلى المال، والمال مصدره الأساسي الإعلان، والإعلان سوق ومنافسة، ونحر ومنحور، وإقناع للمعلن، وتنافس مع الغير في الداخل والخارج. أما عن الرحلة مع الكلمة، التي تظل شاهدة على كل هذه التفاصيل في بلاط المعارك اليومية، فقال عنها المؤلف: سنوات الكاتب في بلاط صاحبة الجلالة، غصت بكل ذلك، وشهدت ظهور وامتداد شركة تهامة كجهة كادت أن تنفرد بسوق إعلانات الصحف في تلك المرحلة؛ كما شهدت مراحل الانفكاك منها، وما صاحب ذلك من عثرات، وأخذ ورد، وما ساد سوق الإعلان من ترويج للمطبوعات اللبنانية بحجة أنها مقروءة على امتداد العالم العربي، وليست محلية، وتسيير معظم وكالات الإعلان عبر خبرات لبنانية. وأضاف معاليه: كما شهد إنشاء شركة موحّدة للتوزيع، تحفظ للصحف حقوقها المادية، وتحيل التنافس إلى تعاون فيما يخدم المشترك بينها، وكذلك الأمر في التعامل مع شركات بيع الورق، والسعي نحو توحيد مواصفاته بين الصحف، وكل ذلك تطلب عملاً وعرقاً وجهداً ومتابعة.. إلا أن أوراق هذا الكتاب لن تشير إلى شيء من ذلك، فليس الغرض منها تأريخ أو توثيق للعمل الصحفي في المملكة في مرحلة من مراحله، فقد تسنح فرصة لذلك في وقت قادم. أما عن وجهة كتاب معالي إياد بن أمين مدني، الذي أصدره في طبعة أولى في طبعة أولى ، صادر عن فكرة للاستشارات الإعلامية والتسويق،2020م، بعنوان: «من بلاط صاحبة الجلالة»، في خمس وثلاث مئة صفحة، فقد وصف معاليه وجهة بوصلة فكرة الكتاب، قائلاً: الوجهة هنا، هي نشر ما أسهم به «الكاتب» حول المواضيع التي كانت محط اهتمام المجتمع في وقتها، وما أجراه الكاتب من مقابلات صحفية، ومحاولات طرح إجابات لأسئلة، لعل بعضها ما زال ماثلاً أمامنا.. والبلاط حتى ولو لم تعد الصحافة ملكته، تنافسها فيه وسائل أخرى، يظل رمزاً وكناية عن عرش الإعلام، والتواصل، والتعبير عن الرأي، واحتكاك الأفكار، وبلورة توجهات الرأي العام، ذلك العالم الذي يموج بين الصادق المتكلف، وبين صاحب الرأي وصاحب التوجه، وبين الباحث عن القناعة أينما كانت، وذلك الذي لا يرى سوى قَناعته.. وقِناعه. وبعد استهلال تقديمي، لصاحب التجربة العميقة في بلاط صاحبة الجلالة، فقد أعقب التقديم مدخل «البلاط»، خمسة فصول، جاء أولها، بعنوان: كيف تتواصل؟ أما الفصل الثاني فقد وسمه المؤلف بعنوان: معهم؛ فيما حمل ثالث فصول الكتاب، عنوان: سجالات؛ بينما جاء رابع فصول الكتاب، بعنوان: أسئلة؛ وصولاً إلى الفصل الأخير من فصول الإصدار الذي حمل عنوان: حوارات؛ التي أعقبها خاتمة، بعنوان: وبعد.. التي سيجد القارئ فيها تجارب ممتدة للمؤلف مع بلاط يمتد في كل يوم من أيامه مضمار جديد من الهموم، والتحديدات، وصناعة لكلمة الصحفية، عبر فن الكلمة، وميدان الصحافة. وفي إطلالة لرجع الصدى التي جاء متفرِّقات منها على الصفحة الأخيرة من غلاف الإصدار، تطالعنا مقولة للأديب عبد الله الجفري، التي قال فيها: لا أنكر أنني مستمتع جداً بأسلوب إياد مدني، ومتفاعل مع حرارة الصدق في النقاش، واهتمام «الأديب» في داخله بالظواهر المعرفية والأدبية خارجه ومن حوله.. لكنني ألاحظ - من خلال ما نقرأ - أن النقاش ساخط، وأن عبارات الكاتب ساخنة جداً أو ملتهبة أحياناً، وأن إصابته للأهداف التي (ينشن) عليها تأتي عنيفة وانفعالية، ولا بد أن هذا الغضب تفسير للتحديات الفكرية التي يود أن يعلن عنها الكاتب ضد واقع الفكر اليوم، وضد المفكرين والأدباء الذين لا يفعلون سوى الدوران حول أنفسهم، وتكرار أقوالهم، وأقول: «كل مكروراتهم».! ومن أوسع أبواب وظيفة الكلمة، في بلاط صاحبة الجلالة، تتجلَّى ملامح مداد الكاتب، فيما أسهم به عبر امتداد بلاط لا حدود له في الذاكرة الصحفية، ولا يحد عرض صرحه حدود، إذ لا تزال الكثير من الأسئلة والتساؤلات التي طرحها الأستاذ إياد مدني، ماثلة للعيان، ولا تزال مناورته الصحفية معها بحجم أهميتها، وبامتداد تداعياتها المعاصرة، ما يجعل من صفحات هذا الإصدار، صحافة.. وصحفاً في كتاب، لا يزال كل موضوع من موضوعاته، شرفة صحفية يطل منه القارئ على شواهد محل اهتمام بصر وبصيرة القارئ الواعي بمستجدات الأحداث، وما أفرز ظواهرها من تداعيات، كان قد استشرفها معالي الأستاذ إياد مدني، فيما نحته في ذاكرة بلاط لا تصدأ فيه الكلمة، ولا يمكن أن يحد ريادة الكلمة فيه حدود.. عندما تكون الفكرة متجاوزة لحدود البلاط.. والزمان.. إلى الوعي باستشراف مستقبل المستقبل بمداد مفكر لا ينضب عمق مداده، ولا تذبل سامقات مفرداته الصحفية.