أنكر هذا القول من المحدثين عباس حسن بنقض الأساس الذي بني عليه، أنكره «لاعتمادهم على ما جاء في كتاب (فصيح ثعلب)(1)، ونحوه من التصريح القاطع بأنها لا تُبنى للمعلوم»(2). وهو ينكر هذا متابعًا ابن برّي المحتج بقول ابن درستويه «وعامة أهل اللغة يزعمون أن هذا الباب لا يكون إلا مضموم الأول، ولم يقولوا إنه إذا سمي فاعله جاز بغير الضم، وهذا غلط منهم؛ لأن الأفعال كلها مفتوحة الأوائل في الماضي، فإذا لم يسم فاعلها فهي كلها مضمومة الأوائل، ولم يخص بذلك بعضها دون بعض. وقد بينا ذلك بعلله وقياسه؛ ليستغنى بمعرفة القياس عن تقليد (ثعلب) وغيره»(3). يُعمِل ابن درستويه القياس هنا غير ملتفت إلى اعتراضه بالسماع، فالعرب إنما استعملت من بعض الأفعال ما بني للمفعول، قال سيبويه معللًا «وإنّما جاءت هذه الحروف على جَنَنْتُه وسَلَلْتُه وإن لم يُستعمل في الكلام، كما أنّ يَدَعُ على وَدَعْتُ، ويَذَرُ على وَذَرْتُ وإن لم يُستعملا، استُغني عنهما بتَرَكْتُ، واستغني عن قَطِعَ بقُطِعَ. وكذلك استغني عن جَنَنْتُ ونحوها بأَفْعَلْتُ. فإذا قالوا جُنَّ وسُلَّ فإنما يقولون جُعِل فيه الجنونُ والسِّلُّ. كما قالوا: حُزِنَ وفُسِلَ ورُذِلَ. وإذا قالوا: جُنِنْتَ فكأنهم قالوا جُعِل فيك جُنُونٌ، كما أنه إذا قال أَقْبَرْتُه فإنما يقول: وهبتُ له قبرًا وجعلت له قبرًا. وكذلك أَحْزَنْتُهُ وأَحْبَبْتُهُ. فإذا قلت مَحْزُونٌ ومَحْبُوبٌ جاء على غير أَحْبَبْتُ. وقد قال بعضهم: حَبَبْتُ، فجاء به على القياس»(4). ولست بعدُ ذاهبًا مذهب ابن بري أو ابن درستويه ولا متابعًا لعباس حسن في حماسته لهما حتى قال «ولا شك أن رأي (ابن بري)، ومن معه من المحققين هو السديد -كما تقدم- والأخذ به يؤدي إلى إلغاء تلك الأحكام الخاصة، ويبيح في الثلاثي (التعجب) المباشر، وكذا (التفضيل) بغير وسيط، ويرد لتلك الأفعال اعتبارها وحقها، ويجعل شأنها شأن غيرها من باقي الأفعال التي يصح أن تبنى للمعلوم حينًا، وللمجهول حينًا آخر، على حسب مقتضيات المعنى»(5). والمعنى الذي ختم به عبارته هو ما يفسد عليه أمره ويحول دون تحقيقه غرضه؛ لأنك حين تقول (زيدٌ أجنُّ من عمرٍو) فأنت إنما تفاضل بين مجنونين لا فاعلي جنون، بخلاف قولك (زيدٌ أعلم من عمرٍو) فأنت تفاضل بين عالمين. ومن أهم ما أثارته هذه القضية مذهب بعض المتأخرين إلى عدّهم فاعلًا مرفوعَ الأفعال التي استعملت مبنية للمفعول، فلست أرى فرقًا بين تلك الأفعال منذ رُفع بعدها المسند إليه، فهذا المرفوع من حيث التركيب فاعل للفعل وإن كان من حيث المعنى مفعولًا به، وإنما ساغ كونه فاعلًا لأنه بهذه البنية المغيّرة صار مُتّصفًا بالحدث لا مُنجِزًا له. وهذا ما يبينه أوضح بيان ابن يعيش، قال «فإذا حُذف الفاعل، وجب رفعُ المفعول، وإقامتُه مُقام الفاعل، وذلك من قِبَل أن الفعل لا يخلو من فاعل حقيقة، فإذا حذف فاعله من اللفظ؛ استُقبح أن يخلو من لفظ الفاعل، فلهذا وجب أن يُقام مُقامَه اسمٌ آخر مرفوع، ألا ترى أنهم قالوا: (مات زيدٌ)، و(سقط الحائطُ)، فرفعوا هذين الاسمين، وإن لم يكونا فاعلين في الحقيقة. وشيءٌ آخرُ، وهو أن المفعول إذا لم يذكر مَن فعل، صار الفعل حديثًا عنه، كما كان حديثًا عن الفاعل، ألا ترى أنك إذا قلت: (ضُرِبَ)، فالمحدّثُ عنه هو المفعول كما أنك إذا قلت: (قام زيد)، فالمحدّث عنه هو الفاعل لاكتفاء الفعل بهما عن غيرهما، فلمّا شارك هذا المفعول الفاعلَ في الحديث عنه، رُفع كما رفع»(6). وما نريد أن ننتهي إليه هو أن مرفوع الفعل المبني للمفعول أو للمجهول فاعل لهذا الفعل، وأنّنا في غنًى عن مصطلح (نائب الفاعل). ... ... ... (1)ثعلب، كتاب الفصيح، تحقيق: عاطف مدكور (دار المعارف بمصر، القاهرة،) ص269. ثم أفردت الأفعال المبنية لما لم يسم فاعله بكتب خاصة، منها (المنهل المأهول بالبناء للمفعول) لابن ظهيرة، ثم كتاب (إتحاف الفاضل بالفعل المبني لغير الفاعل) لابن علّان الصديقي، و(قاموس الأفعال المبنية للمجهول) لأسماء أبوبكر محمد. (2)عباس حسن، النحو الوافي، 2: 108. (3)ابن درستويه، تصحيح الفصيح وشرحه، ص: 92-93. (4) سيبويه، الكتاب، 4: 67. (5) عباس حسن، النحو الوافي، 2: 108. (6) ابن يعيش، شرح المفصل، 4: 307.