حين نذهب إلى متحف فني تعمر اللوحات قاعاته فإن أول التزام ثقافي هو أن نلتزم الصمت التام ، وهذه من الأخلاقيات الثقافية وهي لازمة سلوكية لو خالفها أحدنا أفسد على كل من في القاعة ، وغالبا سيجد من يطلب منه التزام الصمت أو في الأقل ستتجه إليه الأنظار مستنكرة ورادعة ، وهنا يأتي السؤال عن سبب الحاجة إلى الصمت المطبق أمام اللوحات ، وهو أمر يعود لحاجتنا إلى توظيف حاسة السمع لتتولى تشرب اللوحة والدخول في عمقها ، بمعنى أننا نستنطق اللوحة ونناشدها أن تتحدث إلينا ، ولن يكفينا مجرد النظر إليها بل نظل نشعر أن هناك شيئا آخر في اللوحة غير ما نشاهده ، وإن تشارك البشر أمام مشهد اللوحة واتفقوا على خصائصها البصرية لكنهم لن يتوافقوا على ما تقوله اللوحة لهم ، وهي اللحظة التي تحتاج إلى وقفة طويلة وصمت مطبق وإخلاص ذاتي لشروط الوقفة والصمت ، ولن تنطق اللوحة ما لم تشعر بأن ناظرها وناظرتها يستنهضانها لكي تتكلم معهم ، وهي إذا ما شرعت بالكلام فستخاطب كل واحد منا بلغته التي يفهمها ، فالعربي والياباني والبريطاني سيتلقون كلاما يخص لغاتهم ويخص دقيق مشاعرهم ودقيق ثقافتهم ، وهنا فقط نقول إن حالة التلقي للرسمة بلغت غايتها مما يجعل البصيرة والمشاهدة هما الدرجات الأولى التي ستتلوها درجات مصدرها السمع الذي سيتلو البصر في كل لحظات وقوفنا أمام اللوحة ونظل متسمرين أمامها نتودد لها كي تمنحنا رسالة شخصية تصلنا بها ، وإذا تحقق ذلك فستتحقق معه أعلى درجات الدهشة والحس أننا أدركنا دلالات اللوحة ورموزها التي ستظل غامضة إلى أن تتكلم اللوحة معنا وتفشي لنا عن مشاعرها وأحاسيسها ، وسنختلف فيما نفهمه منها كما سنختلف فيما ترسله لنا لأنها تخص كل واحد منا برسالة تتفق مع تجاوب اللوحة معه ومعها . هذه توريقة أولى عن دور السماع في تلقي المعاني وفي التوريقة التالية سأتناول وجوها أخرى لهذه النظرية .