مرَّ ثلاثة أشهرٍ على وعود القْرَّعَةْ الضامرة في المدينة الريفيّة لزيارةِ الرياضِ التي تسحبُ عرفها الطويل لتجعله ذا امتدادٍ عجيب كما النخيل التي تملأ الناحية التي تسكنُ بها، وهي بالأحوالِ كلها تستطيع بمهارةٍ أن تختلق عذرًا يُبعدها عن المدينةِ الصاخبة كما تسميها حتى لو كان موعدًا لتقليم أظافر قطتها العجوز في محلِ الحيوانات الوحيد الذي يختار وقتهُ المناسب دومًا للافتتاح دون أن يعبأ بشيء؛ مع أن الرياضَ بشكلها الفريد تجمع ذاكرةَ مدنِ العالم وقراه في أحشائها ونواحيها، حتى تِلك القرى الصغيرة التي لا تبعدُ عنها سوى القليل فأرى في الناسِ والسكانِ شذارًا من أماكن كثيرة، لكني لا زلتُ أتعجب من الكائناتِ التي لا تستطيع المقام بالرياض، حتى عرفتُ المسكونين بالأماكن كما المسكونين بالمشاعرِ يعاودون السَيرَ في العجلةِ يلوكون الذكرياتِ ثمّ يعتاشون عليها مرّة أخرى، وهم لا يرتبطون بالمدنِ كما تحكي أفواههم ولا الأجواء والطقس، وإنما يعودون للمكنون الدري للحياةِ في قلوبهم كيف ينبع من الذكريات التي تعتمر قلوبهم حتى لو توهموا. هذه القْرَّعَةُ الوحيدة في العالمِ التي توحدت بالأعذارِ حدّ أن أصبحت كل حكاياتها وأقوالها مقبولةً لكل من يسمع، فإذا هاتفتني وذكرت لي من مواجعها وآلامها ما يقض جسد المدينةِ لبنةً لبنةً توحدتُ بآلامها، وجعلتُ من أوجاعها الزمهرير الذي يهبُ عليّ من كل الأصقاع والنواحي، وتسرّبَ نواحها إلى كلماتي، وترعرع حسها الرهيِّف في طينةِ السويداء فأنبتَ من شِذاره ذاكرةً عجيبة من الفكرِ الطويل، وهي لم تزل في لعبها ولهوها تستنشقُ الهواءَ في كل صباحٍ أمام النخيلاتِ الجميلة أو في الطرق الزراعيةِ الممتدة على أطرافِ المدينةِ التي تخالها قريةً متراصةً بالحُبّ، وتتابع الأفلامَ أمام شاشتها العِملاقة برفقةِ قطتها التي تشبهُ العاصفةَ الرمادية وتحتسي الشاي إذا هبّ المساء على ترانيمِ تمارين الصخبِ اليومي النقاشيةِ وهي التي تخلطُ القهوة العربية بالنسكافيه لتدعمَ أجواءها الخاصة في البيتِ ذي الأعمدةِ المائلة مع تميراتٍ تبتاعها من المزارع التي لا تبعد عن المنزلِ سوى خطواتٍ يسيره، وتذكرني بمزارع الرياض التي يبتاع مِنها والدي قديمًا بعض الخضراوات ومنتجات الألبان، وكنت أشدُ في نخيلها الباسقات إلى الذاكرةِ التي تحتويها. ثمّ أتذكرُ كيف تنشط هذه القرعة اللطيفة بالتفكيرِ للطاقةِ القصوى أمام الكتبِ النثيرةِ حولها، أو تلك المحفوظة في جهاز اللاب توب، لتبدأ بالتحدثِ، حديث يجر آخر عن الحياة، وما يعتريها من وسقِ القلق الممهورِ ترقبًا، وفيهِ من شعيراتِ الماضي الممتدة على التميراتِ الناشفة والشوكولاته المُرّة الكثير، وكأنما شبكة عنكبوتٍ لا تتقطع قد ربطتها بهذه الخردةِ الحية بحبلِ الحياة، وبهذهِ القريةِ المدينة التي لم تعد تصغي لنواحها وهي تتمشى بين الطرقاتِ وتراقب وجوهَ الكائناتِ العجيبة بينما ينتظرها حشدٌ من اليقطين في الرياضِ، أو في القرى القريبة مِنها أزمنًا طويلة. ورغمًا عن ذلك، اتخذت هذه القرعة نحافتها التي ولِدت بها ذريعةً لتكوّن نظرًا سميكًا يعززُ اختلافها عن اليقطينات التي تمتاز غالبًا بالاستدارةِ والسُمنة، فعزلتُ بسياجها الفكريّ خارج المدينةِ التي نمّت فيها ذاكرتها أول الحياة؛ هاجرةً الحقولَ والمزارع التي رُطبت بمسيرها الأول عليها ومختارةً لها اسمًا بديرًا يشعُ مع انبثاثِ النور... لذلك كانت إذا قررت فجأةً المجيء للرياض أخفت أزياءها العجيبة لتتخفى في اللحظة التي تقرر فيها العودة من جديد للبيت المهترئ خارج العالم، ثمّ أقفلت أجهزة الجوال، وقطعت حبالَ الانترنت لتترك للذاكرةِ العمل؛ أن تزرع لها حياةً خضراء في كل الأماكنِ التي هجرتها. وفي آخر المرّات قلتُ لها: لا تقدمي على المدنِ التي عُمَّرت بشذاكِ، ولا للقرى التي تنوحُ منذ هجركِ الأول، ففي الحياة انكبابٌ عجيب لسيرورةِ الحُبّ الذي ينبتُ بالمحالِ التي تركنها على الرفِ وهي في المقدمةِ دومًا تَحيِّك وجهك للوجودِ من جديد. ** ** - هيثم محمد البرغش