إذا لم يتجه إدراكك نحو امرأة فحتماً ستستحضر الرقم (1)، الرقم الفردي الذي لا يحب العالم في الصورة التي يراها عليه، بل يرغب في تعديله أو تغييره، بالإضافة عليه أو دفعه إلى الأمام. وأنا أصعد الجبل اندهشت كما لو كنت أرى للمرة الأولى ما تعودت على رؤيته سنين عديدة. حدقت في كل ما رأيته. أجل، نظرت بالطريقة نفسها التي كنت أنظر بها في سنوات طفولتي. المشهد جلي وواضح إلى حد أنني شعرت فيه بحرارة أنفاس ذلك الطفل الذي كنتُه. إن الذي أبقى حياتي الحقيقية هو ذاكرتي التي استسلمتُ لها، لتقودني عبر دروب الجبل التي بدت كما لو أن أحداً لم يسر فيها قط. فيما أنا أسير كنت أتساءل: لمَ تملكني الذاكرة؟ ولمَ أنا عاجز عن أن أتملص منها؟ أو حتى عن أن أسكتها؟ وبينما اختارت ذاكرتي ما يلزمها، واستخدمتني لكي تنجز ما هي عليه، علمت أنني سأسقط فيها بينما أنا أعبر القرى، وأنها تجرني إلى حيث لا أريد أن أتذكره. وفيما أنا أعبر كان الجبل هو الجبل، والقرى هي القرى، فمن أين تأتي غربتي؟ من أن كل شيء لم يكن كما كان حتى وإن ظهر كذلك. ها أنا أقف على مشارف قرية السلاطين الموحشة التي بدت كما لو أنها لم تسكن قط، الدروب ميتة، والسماء زرقاء، ما من غيمة واحدة تعكر صفوها، ولا حتى الضباب الخفيف الذي يغطي عادة القمة التي تحرسها من الناحية الغربية. لحظة أسى تلك التي اكتشفت فيها أن ما كنت أظنه مستودع طفولتي خراب لا شكل له ولا حدود. قريتي التي نسيتني دروبها، عاشت بدوني، وحينما عدتُ لم تتعرف علي، أنا الذي أسير فيها وحيداً وكائناً غريباً. كل شيء في القرية غارق في الصمت؛ حتى الرياح التي كانت تحرك رؤوس الأشجار توقفت. لم يكن هناك سوى القرود. قرد ضبح في مكان ما. ضباح أتى من مكان خارج القرية. مكان ما، ربما قرب مصلى إبراهيم أو من الغابة القريبة منه. وربما من الصمت والعزلة التي كنت أعيشها. كان بمقدوري أن أرى وهج البرق، وأن أسمع دوي الرعد. هناك فوق جبل شدا الأسفل المقابل لجبل شدا الأعلى. بدا لي كما لو أن عاصفة ممطرة تتكون، وتتهيأ هناك لكي تصل إلى هنا. دلتني خبرتي على أن العاصفة ستنتهي في وادي ناوان الذي يفصل بين الجبلين. لم يحدث قط أن شعرت بثقل الحياة مثلما شعرت بذلك وأنا أعبر دروب قريتي. شعرت كما لو أن بيوتها ترزح فوق القرية، وأن القرية ترزح فوق الجبل، وأن الجبل يرزح فوق الأرض، وأن الأرض ترزح فوق الكون، وأن الكون يرزح فوقي. أيكون الثقل الذي شعرت به تجلياً لفكرة النفي أو الحنين إلى ما كنت قد تركته هنا من سنوات؟! أنا الذي لم يكن لدي سوى ذكريات طفولتي. لم تكن بيوت القرية كثيرة: أحد عشر بيتاً؛ بعد أن هجرها الناس تساقطت سقوفها، وتخلعت أبوابها، تحيط بها أراضٍ زراعيةٌ امتلأت بالأعشاب. هناك مسجد القرية الوحيد الذي وقف على مئذنته غراب، ودروب الحيوانات كطرق النمل التي تؤدي إلى المزارع. تغيرت القرية أكثر ممّا كنت أتوقع؛ إلى حد أنني شعرت بعدم عيشي فيها، وأنني لم أكن هنا في يوم من الأيام.