الحياة داخل زجاجة تجعلك دائم الترحال في هوائها المضغوط!! قال لي يوماً بعد أن حدّق في خيالي جيداً: «أنتِ شكل جاهز للوحة تقفز فوق جدار!» ولأنني كنت وقتها أستعد لقفز مباغت قلت: «لكن الجدار يسير إلى جانبي وأنا أقفز خارجه كأرنب مذعور!!». *** في المدرسة عندما كنت أحمل داخل حقيبتي عمري الصغير وابتسامة تنطلق من أسرها غير آبهة، كانت المعلمات يمشين فوق أفكاري الضاجّة بسحب تتكاثف كالمطر، وكنَّ متأنقات يعبرن في عيني، ويقفن طويلاً أمام جرس يقرع بسهولة في الساحة وبصمت في رأسي!! إحداهن انتفض جسدها سريعاً وهي تمرّر في أعيننا خوفاً جديداً، كنّا نتعرف عليه لأول مرة. كانت المدرسة تنتزعنا من أحضان أمهاتنا، من دفئهن اللذيذ الذي يشبه الأغنيات الحالمة، في المدرسة كانوا يعلموننا كيف نخلع الحنان الذي ارتديناه في الصباح من قلوب أمهاتنا، ونرميه في محرقة القسوة التي نراها تلتهب في أحداق المعلمات اللدودات!! .. كنّا نتعلم على مضض كيف نغرز رؤوس الدبابيس الحادة في أحلامنا الصغيرة لنحيلها إلى بالونات مثقوبة في الهواء. كنّا صغيرات على الجرح الذي يكبر في داخلنا، ولم نكن ندري أنه جرح لا نستحقه!! كانت خطواتنا تدخل الحارات الضيقة بأزقتها المتشابهة، وجدرانها المتآكلة وترابها الدافئ، والحصى الذي يتقافز أحياناً تحت أحذيتنا العتيقة، ويصدر صوتاً محبباً عند اصطدامه بسيرنا اللاهث فوقه، والحكايات التي كانت تختزل طفولة شقية، تترك ضحكاتها العابثة فوق الجدران الرمادية، وعلى الوجوه الأليفة التي تمرّ من جانبنا، وتلتقط عيناها صورنا بالمراييل الصغيرة الباهتة. *** سلوى فتاة ندية الضحكة .. سمراء البشرة .. مراوغة في شقاوتها، تنثر الحكايات الكاذبة كما تنثر الرذاذ من فمها الواسع عند الكلام، تحمل حقيبتها الجلدية القديمة فوق كتفها النحيل، وحين تشاكس صباحاً نزقاً كانت تضعها فوق رأسها المثقل بصياح أمها المعتاد .. سلوى انتظري .. لا تسرعي هكذا. كانت تلتفت ناحيتي، مباغتة صراخي اللاهث خلفها، ومن طرف فمها تخرج لساناً أحمر وتجرّ الحقيبة الجلدية على تراب معبأ بخطوات أخرى صباحية الحذر. أنت المتأخرة .. الجرس سيدقّ بعد دقائق .. لست أحتمل صراخاً آخر . عرفت أنها غاضبة، وأنها خرجت للتو من صوت أمها الزاعق كالمعتاد. هل أنت غاضبة مني؟ صغيرات كالبراعم .. نورق على عجل. لا .. ليس منك .. أوووف .. هاتي يدك .. أسرعي. تبعتُ صوتها الآمر، تلقفتْ كفي الصغيرة ، وسرنا معاً. ماذا ستقول لنا معلمة الجغرافيا عندما تكتشف أننا «نقلنا» الواجب من شيخة؟ لن تكتشف الأمر. إنها لا تقرأ ما نكتب. ولكن سلوى لماذا برأيك يعطوننا الكثير من الواجبات؟ .. ألا يكفي أنهم يملئون رؤوسنا بتلك الأشياء الغريبة؟!! لا أدري .. اسأليهم!! *** في تلك الحفلة التي دُعيت لها، وذهبت مرغمة لأن أمي سكبت على وجهي دموعها، وأيقنت أن إصراري على الرفض لم يعد مجدياً وهي ترمي في قلبي أحزانها. رأيت «سلوى» مختلفة كانت .. امرأة أنيقة .. جذابة .. مهذّبة، وبسرعة مرّت في ذاكرتي صورتها وهي تركض في ساحة المدرسة كالصبيان، وتلعب بالكرة التي كانت تخفيها عن أنظار المعلمات وإدارة المدرسة، ولا ندري بالضبط من الذي كان يخبر الإدارة الحازمة بأمر الكرة تلك، ولم نكن ندري أيضا لمَ اللعب بالكرة مرفوض بالنسبة للبنات؟! كانت سلوى تزمُّ شفتيها بلامبالاة عندما كنت أهرع إليها مرعوبة، وأهزّها من كتفها النحيل، وأقول لها بصوت مرتعش: «إنهن قادمات .. اختبئي!» وكنت أدرك أنها لا يمكن أن تختبئ ، وليس ثمة مكان لا تصل إليه عيونهن الشرسة. كنّ يأخذنها من أمامي، يدخلنها إلى غرفة المديرة، ويغلقن الباب خلفهن، كان خوفي عليها يجرني من قلبي فألتصق بالباب المغلق، يأتيني صوت المديرة مدوياً، يهزّ أغصان فزعي يقوة!.. كنت أتساءل: «لماذا المديرة غاضبة هكذا من كرة نمرح بها ونلعب؟!» لكن سلوى اليوم جميلة كوردة، تقدمت منها بحذر يشبه لغة كنّا ندرسها وندخلها في عقولنا رغماً عنّا . سلوى .. هل عرفتني؟ .. أنا دلال ! تحركت عيناها العسليتان ناحيتي، كانت شفتاها على وشك أن تبتسما، حلوتان تلكما العينان مرسومتان جيداً بالكحل، ومظللتان بألوان فاتحة كالنهار الذي كنّا ندخله ونحن تمثّل أدوارنا كنساء بعباءات طويلة نجرّها خلفنا، ونحاول جاهدتين أن نلمّ أطرافها تحت أذرعنا الصغيرة، ونجلس كنساء، ونتكلم كنساء، ونكذب كنساء، ونغتاب كنساء!! وكنت أفتح فمي دهشة وأنا أستمع إليها تروي حكايات جاراتنا كأنها كانت بينهن، تعرف كل الحكايات الخفية، وكأنها كانت تسترق السمع تحت الجدران الطينية، وعندما كنت أشهق ضاحكة، كانت تغمز لي بعينها الصغيرة، وتضحك ملء فمها الواسع وهي تقرّب من شفتيها الغليظتين كأس الشاي الأحمر الخفيف. *** كانت تعتلي مرحها الذي يمسك بلآلئ الثريا المتدحرجة إلى أعلى .. نبّهتني قامتها المتطاولة باتجاه نهر الأثواب الحريرية المزركشة بالأحلام إلى حلمي الصغير، مركبي البحري بجزر أقماره النائية، وصرت قريبة من ضحكاتها أرنو بتوجس غريب .. دلال .. أكاد لا أصدق .. أيتها الطفلة الشقية أين جدائلك السوداء الطويلة؟!! كانت لا تسأل لكن تشاكس !!.. قلت لها وأنا أداعب شعرها البنّي القصير: ذهبت مع جدائلك التي كانت تمضي أياماً دون أن تسرّح!! ضحكنا كقمرين يتقابلان صدفة في سماء واحدة. قالت بحنو وبهجة: تعالي أعرّفك على صديقاتي .. ستشرين معهن بمتعة ، إنهن لسن كصديقات الحواري القديمة والخطوات الترابية المضنية. ثم وهي تقترب بفمها الوردي من أذني تهمس قائلة: أنهن من بنات الطبقة المخملية الراقية.. لن تجدي بينهن من تعتلي جدار سطح بيتها الطيني لتتطلع إلى الشارع الرملي في الزقاق الضيق!! أثارني هذا التلميح إلى ما كنت أقوم به وأنا طفلة وكان يشعل في عروقي حماساً إلى محاولات أخرى أشدّ خطورة تلهب فيّ التحدي .. كأنْ أمدّ جسدي الصغير فوق أغصان الشجرة العجوز في ساحة منزلنا وأهزّ أغصانها المتفرعة «بالعبري*» بقوة فيتساقط على الأرض ثم ألمّه في آنية كبيرة وأحفظه في الثلاجة، وقد أعطي منه إلى أبناء الجيران الذين كان يحلو لهم أحياناً أن يرموا شجرة «العبري» الزاهية تلك بالحجارة من بعيد!! وكان بعض تلك الحجارة يكاد يصيبني فأغضب وأصرخ بهم من خلف الباب، وعندما كان يصلهم صوت صراخي كانوا ينسلون كالقطط بذلك الخذلان الذي أحبه!!.. ولم أكن أدرك وقتها أن الحياة ستدفع بالمشاكل تباعاً إلى دائرتي لتختبر قدرتي على اعتلائها كجدار. كانت الدائرة الحريرية تتسع لخمس وردات معطّرة برفاهية القدود الرشيقة .. وقفتُ بينهن تحوم حول رأسي مشاهد الذاكرة وهي تفتح أمامي حقيبتها لأنثر محتوياتها في وجه سلوى الذي كان يرتدي ألوانه في ذلك المساء كلوحة فجرية مذهّبة بألوان الطيف .. كانت الدائرة تضيق حولهن وتبقيني خارجها .. لعمر يدخل في غرف الأيام المعتمة لم أكن أنظر إلى وجهي في المرآة كامرأة!!.. كانت ملامحي دقيقة، كان فمي صغيراً كحبة الكرز وعيناي عسليتين كشاطئ غجري يلوذ بأمسيات حلم ندية، كانت قسمات وجهي تهيئني للجمال، لذلك الجمال الذي كان الفرسان يتقاتلون من أجله في العصور القديمة!.. لكن هذا الزمن ليس للفرسان، ولا أنا أملك مرآته !! تلفعت بالصمت .. أحوم حول ذاكرتي كلص يتحين الفرصة السانحة لسرقة أشيائها الثمينة ونثرها في وجه فرحته الطارئة الملغّمة بخوف يمكن أن يأتيه بمن يقبض عليه متلبّسا بسرقة أحلامه من أدراجها المغلقة! ذاكرة تعنيني وحدي، أسمع صوتي يخرج من جدارها، وحيداً، مهزوماً، مكبّلاًَ بحزن عتيق، ودون أن تشعر سلوى بي ابتعدت بصمت عن دائرتهن المخملية. أرافق أحلامي إلى الخارج، أتأبط ذراعها وألتصق بها وأكتشف أنها عالمي الذي يخصني وحدي، تنمو من جدار يسير بمحاذاتي، ويرتدي صوتي بارداً ومحايداً وجاهزاً للانطفاء!! العبري : ثمار يسمى «النبق» في بعض مناطق المملكة.