تظل العلاقة بين الإنتاج الفني والعملية الاقتصادية المرتبطة به (كالاقتناء) علاقة تحفز الكثير من النقاشات التي تستحيل أحيانًا إلى جدل، يشتعل ذلك النقاش بفعل رأيين يخالفان الفكرة ويميلان للتطرف فيما يؤمنان به، الرأي الأول يؤمن صاحبه أن الفنّ أمرٌ زائد عن الحاجة ومضيعة للوقت والمال والجهد، ويرى الفريق الآخر أن ربط الإنتاج الفني بالبيع أو أي مقابل مادي مثبط للإبداع مدمر للفن نفسه، إننا نستشف الرأيين من بعض نقاشات المجالس أو من خلال بعض التعليقات المقروءة على تويتر وبعض الوسائل الاجتماعية صراحةً أو تلميحًا، وفي مقابل ذلك أجدني أشعر بالخوف العميق أحيانًا من انفصال تلك العملية الإبداعية عن الحالة الاقتصادية، إذ يخيفني أن يموت الفن في نفس فنانٍ حين يصبح عبئًا لا يقابل بمكافأة عادلة، وأراني رغم احترامي للرأيين كليهما مخالفًا لهما لما أرى من آثار مهمة لهذا الربط وتأثيرًا مفيدًا. تبدو الفجوة بين بعض عناصر المجتمع والفن كبيرةً، إذ يعتقد البعض الفنّ أمرًا غير أساسي في المجتمع، ولكنّ محبًّا للفن مثلي يؤمن بمقولة «الشعر ديوان الشعوب»، بل ويضع لنفسه حق التعدي على تلك الجملة وتعديلها لتكونَ: «الفن بكل أنواعه ديوانٌ للشعوب»، فهو سبيل الشعوب لتوثيق ذاكرة جمعية أو فردية وللتواصل مع الآخر بلغة تكاد تكون كونية أبدية، يقول درويش في بيانٍ جازمٍ بهذا الرأي: «هزمتكَ يا موتُ الفنونُ جميعها – هزمتكَ وانتصرتْ وأفلتَ من كمائنكَ الخلودُ» ونحن نظن حتمًا أن الفنون هزمت الموت ومعه الحدودَ الجغرافية والمشاكلَ الاقتصادية والأمراضَ النفسية، ولذا فلا يصح أن يعزل الفن نفسه في طائفة دون أخرى، ليس عدلاً أن نمنعه عن جميع مكونات المجتمع، فهو متأثرٌ بالبيئة والناس مؤثرٌ فيهما، وسوقه يحافظ عليه من الوهن والتعب، سوق الفن يسهم في تنمية العملية الفنية بشكل مباشرة ويطور أسواقًا أخرى موازية. إن سوق الفنّ محفزٌّ اقتصاديٌّ لتحقيق عوائد اقتصادية بشكل مباشر من خلال العوائد المباشرة للمنظمات التي تعمل في هذا السوق كالمتاحف ودور العرض (أو صالات العرض) وشركات بيع الأعمال الفنية وشركات الفعاليات المديرة للفعاليات الفنية، فسوق الفنّ العالمي ضخمٌ يتكوّن من أكثر من 300 ألف منشأة توظف أكثر من ثلاثة ملايين شخص في وظائف متنوعة تتراوح في الخبرة كوظائف الخبراء والقيّمين على المعارض والمساهمين في إدارة المعارض والمتاحف. يذكر لي أحد الأصدقاء أنه يوظف في القاليري مديرة للصالة وهي ذات خبرة ومعرفة فنية، ومعها مساعدة لها، بالإضافة لعاملين يساندان في النقل والتركيب، فضلاً عن تعاونه بوظائف مؤقتة لموظفين ومصورين وغيرها خلال فترات المعارض المؤقتة التي يقيمها. أضف إلى ذلك ما قد يصرفه زائر المعرض أو المتحف أو الفعالية الفنية (أكان مقتنيًا أم زائرًا) من مبالغ على صناعات موازية لسوق الفنّ، كالأسواق المجاورة والصناعات المصاحبة للفعاليات والمعارض مثل المطاعم والمقاهي والفنادق والتقنية، وقد تجاوز الصرف على هذه الصناعات أكثر من 20 مليار دولار في العام 2017 بحسب آرتس إيكونوميكس، وقد أدى هذا لتوظيف ما يزيد عن 330 ألف موظف في هذه القطاعات المختلفة بسبب الفنّ، أليس ذلك كفيلاً بأن يشجعنا لدعم هذا السوق والتسويق له؟ ألا نرى بوضوح اليوم أهمية السياحة الثقافية والاستثمار فيها؟ إننا بذلك نبني ونثبت سوقًا فنيًا ثابتًا توظف الكثير من الشباب والشابات من أبناء الوطن، ويعود نفعه المادي والمعنوي على الفنّانين والمستثمرين في المجال الفني نفسه وفي المجالات الموازية. وهذا يجعلنا نترقب بكل شغف لكل منجز من منجزات برنامج جودة الحياة ضمن رؤية 2030 والذي يلتزم إقامة أكثر من 140 معرضًا فنيًا وأكثر من 11 متحفًا - بحسب الوثيقة المنشورة على موقع البرنامج، على أن تكون موزعة على مناطق المملكة كلها، ويلفتُ انتباهنا أن البرنامج سيهدف لتحفيز مضاعفة الإنفاق الأسري على الثقافة والفنون كزيارة المتاحف والمعارض الفنية، كما ستكون هناك مبادرات لدعم الفن كمبادرة توفير برامج لحماية الفنانين الذين يعانون من عدم التقدير الاجتماعي. إن كل ذلك كفيل بتغيير وجه هذه الصناعة في المملكة ليكون أجمل وأعم نفعًا، وبذلك تكون المملكة قِبلة لمحبي الفنّ، سيظهر أثرها الواضح على المبدعين من الفنانين والفنانات، إنه تحريك لهذا الإبداع وهذه الصناعة، وفيه تحفيزٌ لدخول منشآت جديدة في المجال وتوظيف الشباب والخبراء (من الجنسين) في الوظائف الدائمة وذات القيمة العالية أو في الوظائف المؤقتة، إنه تحفيزٌ في المجالات الفنية المباشرة أو في القطاعات الموازية كالسياحة والمطاعم والفنادق وقطاعات التجزئة، إنني متفائل بهذا مقرونًا بمشاريع وزارة الثقافة التي ستساعد حتمًا على ظهور جيل من الفنانين المحترفين لا يتركون الفنّ من أجل الوظيفة، وهذا من أهم ما يحافظ على استمرارية الصناعة الفنية والمحافظة على وهجها. ** **