أحببته حبًا كجمال اللغة وآدابها، وكجمال الصوت الذي يشنف الآذان بنبراتها، وكجمال الأصالة والوفاء والكرم، وجمال بيته الشعبي في الداهنة الشامخ شموخ البر بوالدته، أحببته كجمال تلك الأيام التي عرفته فيها منذ ما ينيف على أربعين عامًا، وكجمال اليوم الذي دعاني فيه إلى الغداء، في يوم جميل معطر الأرجاء.. هجر منتديات السمر، ووهج الإعلام، ليبقى إلى جانب أمه المريضة في بيتها المتواضع في كل أشيائه إلا من عزة النفس والكرامة، إنه إن كان يوما بجانبها فقد كانت بجانب مذياعها الصغير تنتظر (هنا الرياض) ينطق بها حبيبها فتعلم أنه وصل الرياض. لزم أقدامها وبر بإقسامها، وأسرع الخطا فوق الرملة الطاهرة بين الحجرات حتى رأى صفرة الموت وماتت بين يديه. عرفني به الصديق الشاعر حمد العسعوس ونعاه إلي الصديق الشاعر عبد المحسن الحقيل، ولكن كما قال شيخ المعرة: إن حزنا في ساعة الموت أضعاف سرور في ساعة الميلاد.. ليس عبد الله الزيد ذلك الذي ألف أكثر من عشرة دواوين فقط، وإنما هو ذلك الذي عاش مبهوراً بالكلمة والإبداع الإنساني، حتى وجد نفسه يوما أجوَف -على حد تعبيره- لحاجته إلى الفقه بعد وفاة أمه، وكبر معجبا لما صلى خلف عامل يحفظ القرآن ورأى قامة علية القوم تتقاصر عن قامته من خلفه وهو يتقدمهم نحيل الجسم رث الثياب.. وعبد الله الزيد هو ذلك الذي أبت مروءته أن يأكل في قاعة المحاضرات بعد المحاضرة وعزم على أصحابه أن لا يأكلوا توقيرا لمكان الفكر والأدب، ودعاهم إلى بيته وهو أعزب ليفاجئهم بأطباق البروستد، ثم مشروب الشاي الذي يعمله بيديه.. الناس لا يحتفلون بالأديب إلا إذا مات، وأنا احتفلت به حيا قبل أن يموت، لكنني لم أقرأ دواوينه حيا استغناء به عن آثاره، فلما رحل قرأت في دواوينه، وكنت أنوي زيارته في كثير من الأحيان فأذكر ظروفه فأحجم عنها وهي أغلى الأمنيات.. كان مذيعا استثنائيا في إذاعة الرياض يقرأ نشرات الأخبار ويعد بعض البرامج الثقافية والأدبية الجميلة كبرنامج (ورقة من الماضي) يقدم فيه مختارات من نصوص الأدب القديم ويعلق عليه.. وكان متذوقا لكل جماليات الأدب من شعر فصيح وعامي وقصة ومسرحية، وله أعمال شعرية بلغة جميلة قوية، لكنه يفضل الغموض مع قدرته الفائقة على اللغة السهلة الواضحة، كما يمتلك القدرة على إضافة تعبيرات ومفردات مبتكرة في تصريفاتها كقوله لي: أنت تمسرح الأحداث، وقوله: أحيانا أتسطح في البيت!.. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وأحسن عزاءنا فيه وعزاء أهله ومحبيه. ** **