رحمك الله يا عبدالله الزيد فقد كنت قبل أن تكون شاعراً من الكرام البررة، فلقد تركت عملك وكل ارتباطاتك وجميع زخارف الدنيا وذهبت إلى بلدة الداهنة تلك القرية المنزوية تحت جبال طويق لتظل مع والدتك التي رفضت الذهاب إلى المدينة.. لقد كنت وفياً خاضعاً جناح البر لها ولم تعبأ بوظيفة ولا بمنصب بل لم تعبأ بشيء من أمور الدنيا وزخرفها وظللت معها وبرفقتها حتى واريتها الثرى.. وتلك سجية لا تتوفر إلا في الكرام البررة والنبلاء الأخيار... ولقد كان خبر وفاتك صاعقاً وموجعاً ومؤلماً لكل محبيك وكل الذين عرفوك حيث عرفوا فيك النقاء والصفاء والمحبة لكل الناس لكل الأشياء الجميلة فلقد كنت أنيقاً في صداقتك كما كنت أنيقاً في روحك ومظهرك وكنت لماحاً شديد الحساسة للكلمة شديد الانفعال لكل ما هو رائعٌ وجميل... لقد عرفتك منذ بدايات إبداعك وعرفتك عن كثب عندما عملنا سوية في بريطانيا.. عرفت فيك الشهامة والرجولة والأصالة في كل ما تأتي وكل ما تدع.. ولن أنسى تلك الحوارات الراقية مع الطيب صالح وخلدون الشمعة وعبداللطيف أطيمش حول الشعر والإبداع وكنا نرى جميعاً أنك تخفي الكثير الكثير مما تكن من الإبداع بل من الموهبة التي كنت تظهر بعضها وتخفي الكثير منها وكنا نتمنى منك الاسترسال في العطاء، غير أنك كنت تؤثر التأمل والتأجيل على التعجيل وكأنك تنتظر يوماً موعوداً تنثر فيه كنانتك الشعرية والإبداعية دفعة واحدة ولكن القدر يا عبدالله كان أسرع فذهب الكثير مع روحك التي صعدت إلى بارئها. لقد كنت بيننا وكأنك على عجل كنت كمن ينتظر سفراً ينتظر قدراً وها قد حان سفرك فرحلت تاركاً في أنفسنا حسرة وألم فراقٍ محرقٍ وعنيف.. لن أنسى أبداً تلك اللحظات الممتعة ونحن نجوب الريف الإنجليزي حينما يأخذك الصمت وتدخل في ملكوت الله مبهوراً بجمال الأشياء مأخوذاً بسحرها وكأنك تقرأ قصيدة من قصائد الزهد والتصوف والاندماج ثم تفيق من غفوتك تلك وتردد بعضاً من آيات الله أو أبيات من الشعر الجميل. تلك خطرات منك يا عبدالله تشبه غفوات النوم في جفن الطبيعة ولقد كانت حياتك أيها الجميل كخفقة النوم في ليلٍ أنيق السهر... ونحن لا نستطيع أن ندفع أجلاً أو نمنع قضاءً لكنك أيها الحبيب ستظل بيننا حياً مورقاً بعطائك فالأجساد تبلى وأما الإبداع فيبقى وما أكثر الذين طوتهم يد الردى فنسيهم الناس، غير أن روحك ستظل حية باقية في عطائك الذي سيتوارثه الناس جيلاً بعد جيل.. ولك الخلد بإذن الله في نعيمٍ لا يبلى وحياةٍ لا تزول.