قبل عشر سنوات كتب الناقد الكبير سمير الفيل مقالة طويلة بعنوان «أحمد الحربي يضيء سماء دمياط بالشعر الجميل»، وأذكر عندما ذهبت إلى دمياط لإقامة ندوة شعرية في مكتبة مبارك، كنت حريصاً على زيارة قرية الشعراء، لأعرف سر هذه القرية، وسر تسميتها، ولكن الوقت لم يسعفني فعدت محمَّلاً من هناك بكتب الشعراء وأرباب القصة، ولم أعرف عن قرية الشعراء سوى أنها مكان ميلاد الشاعر الكبير فاروق شوشة، رحمه الله. كان آخر لقاء جمعني به قبل شهرين تقريباً في مبنى صوت العرب بالقاهرة، وشاركنا معاً في ندوة عن كتاب المختار من أشعار الصحابة الأخيار، وقد كتبت عنه في حينه، وكان في العام الماضي ضيفاً على جامعة جازان وناديها الأدبي، فتحلَّق حوله محبوه من مختلف الأجيال الأدبية، واعتلى المنبر هنا وهناك، وشنف الأسماع بقصائده الأثيرة وإلقائه العذب الذي لا يمله السامع. هكذا هي الحياة تأتي على آخر قطرة من دم الشعر فتجففها في عيون المشهد الأدبي لتنساب الدموع على فراق الأحباب من رموز الأدب شعره ونثره، فبالأمس ترجل فارس الشعر وأستاذ اللغة العربية وآدابها، عن عمر يناهز الثمانين عاماً، رحل عن عالمنا صاحب القلب الحنون، والصوت الرخيم، والإلقاء الشجي، والحنجرة الدافئة، واللغة الساحرة، رحل عنا شاعر الحب والجمال فاروق شوشة، مودعاً محبيه بعد سنين طوال من رعايته الأجيال الأدبية، ومتابعتهم له قراءة واستماعاً، غاب جسده وووري جثمانه، لكنه سيبقى حياً في ذاكرة الأجيال السمعية والبصرية، فمَنْ من هذا الجيل لم يتتلمذ على مجموعته المختارة أحلى عشرين قصيدة حب؟ ومَنْ منا لم يتابع برنامجه الرائع عبر أثير إذاعة صوت العرب عن لغتنا الخالدة، لم ينسَ ولن ينسى التاريخ برنامج لغتنا الجميلة، ولم ينسَ ولن ننسى صوته الجميل، وهو يصدح ملء سمعنا «أنا البحر في أحشائه الدر كامنٌ». فاروق شوشة قضى عمره في خدمة اللغة العربية وآدابها، غاص في أعماقها، وتعرَّف على كنوزها فأخرج منها اللآلئ والدرر، ساهم في تربية الذوق العام، وربط جمهوره بالشعر العربي الفصيح قديمه وحديثه، ونمى فيهم الذائقة الشعرية، وشارك بفاعلية في المجالس العليا للثقافة وفي اللجان الثقافية داخل مصر وخارجها. كان رحمه الله أحد أهم أعضاء مجمع اللغة العربية، فهو من الأسماء الكبيرة الفاعلة في المشهدين الأدبي والإعلامي، أحد الذين أخلصوا للغة العربية فأخلصت له، ومنحته الأوسمة والجوائز، وأخلص للشعر وقضاياه فمنحه بردته الأنيقة، وتحلَّق حوله الشعراء الشباب، فكان الأب الروحي لهم، مدرساً ومحاضراً وصوتاً إعلامياً مدهشاً، تتلمذ عليه كثيرون من جيل الإذاعة الحاليين في صوت العرب، وكثير هم الذين يدينون له بالفضل، فلهم العزاء، ولنا أن نعزي أنفسنا فيه، مع خالص دعواتنا أن يغفر الله له ويرحمه ويسكنه الجنة بما قدمه من أعمال جليلة للغة العربية وأهلها.