عند الحديث عن المرآة في مرايا الأدب، نجد أن المرأة إن لم تكن هي الأديبة، كانت هي لسان ونبض وروح الأديب، بل مصباحه المنير وملهمة كلماته وكل معاني أفكاره. لذلك لم يكن يخلو حضورها من أي نص أدبي، حضوراً يليق بذاتها إما كزوجة أو حبيبة أو أم أو أخت، أو أن تكون مجموعة كل النساء الذين يثرن قريحة الأديب. ويتنوع ويختلف دور المرأة في معاني الأديب حسب الدور الذي تؤديه وتلعبه في حياته. فقد قالوا: المرأة نصف المجتمع، وتلد النصف الآخر. بل إن المرأة هي التاريخ، بدء توثيق لحياة جديدة، تخرج من رحمها مرارًا، وهي في سبيل ذلك، تأسر الأديب في فعلها وأثرها، ربما أثرها السياسي، مثل كليوبترا أو شجرة الدرّ، أو الأسطوري، مثل عشتار، أو كيوبيد، أو الأثر الحياتي مثل مرسيدس زوجة ماركيز وإقبال زوجة السّياب. ولأهمية المرأة عند الأدباء درجات في مختلف الأزمنة والثقافات، فها هو الكاتب الفرنسي جان جاك روسو يقول: الرجال من صنع المرأة، فإذا أردتم رجالا عظاما أفاضل؛ فعلموا المرأة ما هي عظمة النفس وما هي الفضيلة. أما إميل زولا فيقول: المرأة خلاص أو هلاك للعائلة؛ لأنها تحمل في ثنايا ثوبها مصير كل فرد من أفرادها، ولا توجد جوهرة في العالم أكثر قيمة من امرأة تنزه نفسها عما يعاب، وتصون عرضها من الدنس صيانة لا يقع للريبة عليها ظل. وهكذا كانت الأنثى في صف كل رجل، حتى قيل «وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة». وتختلف النماذج في رسم صورة المرأة في حياة الرجل الأديب، فنجد الأنثى عند «تيد هيوز» شاعر بلاط المملكة المتحدة المتزوج من الشاعرة الملهمة سليفيا بلاث، على الرغم من الشكوك التي نالت هيوز جراء حادثة انتحار بلاث، إلا أن الثانيّة حققت أثرًا أدبيًا نسويًا قطيع النظير، يعكس أثر العلاقة الثنائية مع الرجل. وبمقارنة أخرى نجد هناك الكاتب الذي يكون متفاعلًا ومنسجمًا مع وسط النساء، فتكون المرأة هي الواحدة الملهمة التي يخلص لها الأديب حبًا ويكتفي بها ملهمًا، فتخرج عن صفة الأنوثة لتحوز بذاتها على نبض الكاتب، وكأنّ لأحد في الفلك سواها ولا يدور بالمجرة إلا محيطها، عاطفيًا وإبداعيًا، وهذا نجده جلياً في نموذج المرأة الحبيبة، في كل من الأدب الغربي والعربي، فهناك كافكا وملينا، التي حازت على رسائل صارت لاحقًا مضرب المثل بنموذج المرأة المحبة والملهمة والواحدة التي تغني عن غيرها من النساء. وبالتأكيد لا يُنسى الأثر الفني للمرأة في تاريخ الأديب العربيّ، فكانت مكانتها تتعدى منزلة الحبيبة أو الزوجة إلى كونها مصدر الإلهام، فولادة بنت المستكفي ألهمت الشاعر الأندلسي ابن زيدون، في كتابة الكثير من قصائده حتى كانت عنوان أبياته ورسم حروفه. وليلى العامرية لها فصول في التأثير والإلهام في حياة شاعر الغزل العذري قيس بن الملوح، حتى ارتبط اسمه باسمها، وكتب فيها معلقات من الحب والغزل الذي أصبحت رمز من رموزه. وسوزان طه حسين التي لم تكن مجرد زوجة، بل كانت عينًا يبصر بها وهو ضرير، وأنه لم يكن يشعر بالعمى إلا عندما تفارقه. ولعبلة معشوقة عنترة بن شداد باع في تاريخ الأدب وصفحات الشعر. وللحديث عن عبلة وعنترة ابن شداد حديث يطول، فهي التي ساندته في مواجهة عادات القبيلة وقسوتها والتي من أجلها خاض الحروب والصراعات. و«مي زيادة» في رسائلها العاطفية مع جبران خليل جبران، و«غادة السمان» مع غسان كنفاني. أمّا المرأة في ديباجة النص الأدبي، فإنها رمز منقطع النظير، قد تخرج من الواقع دخولًا إلى النص فتتمازج المكانتان، مثل بلقيس في شعر شاعر المرأة المعروف (نزار قباني) حين تغنى بها «بلقيس» بلقيس ... كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل بلقيس .. كانت أطول النخلات في أرض العراق كانت إذا تمشي .. ترافقها طواويسٌ .. وتتبعها أيائل .. بلقيس .. يا وجعي ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل هل يا ترى .. من بعد شعرك سوف ترتفع السنابل؟ هكذا وصف قباني أنثاه الجميلة. فهو وإن كثر احتفاؤه بالمرأة بوصفها مزجا من الصفات الكثيرة معنويًا وجسديًا، فإنها كانت اسمًا له تأثير كبير في حياته أولا ثم شعره، فبلقيس الزوجة المحبة، خلّدت لدى الشاعر حبًا كبيرًا حتى عنوان أبيات شعره ونص قصيدته وعذب ألحانه. وعلى غلاف صفحات كتاب آخر يسطر مواقف نساء الأدباء يقف التاريخ مبجلاً. فهن صفحات تعجز أبجديات الحروف في وصفها. فها هي زوجة دوستويفسكي التي رهنت ثيابها ذات مرة لتوفير بعض الزاد لبيتها لتسطر مثل آخر في الحب والوفاء والتضحية. كما تلحقها زوجة تولستوي التي نسخت له ملحمة «الحرب والسلام»، وكان نابوكوف يقول عن زوجته «فيرا» من دونها لم يكن ممكنا أن أكتب كتابا واحدا. وكانت «فيرا» لسان أعمال زوجها وترجمانها إلى اللغات المختلفة. ول«مرسيدس زوجة ماركيز» إجلال وتقدير يسطره الأدب والتاريخ. فقد ذاع وانتشر أقوى مضرب مثل لها في الوفاء عندما رهنت السّخانة الكهربائية ومجفف الشعر لتسديد مستحقات البريد الزاجل لإرسال رواية «مئة عام من العزلة» إلى الناشر، في الوقت الذي لم يتبقى سوى آلة الكتابة مصدر رزقهم. وللنساء العربيات معجزات في الوفاء والتضحية ف«قدامه» زوجة الروائي العراقي عبدالخالق الركابي تضرب أكبر مثل في ذلك، عندما لازمت عبدالخالق ملازمة الناسخ الكاتب المدون لجميع رواياته الطويلة المعهودة دون كلل أو ملل ولفترات يصعب عدها وحصر أيامها. حيث تعرض الركابي في مطلع الثمانينات إلى حادث تسبب في شلل أطرافه. لذلك كانت قدامه يمين قلمه ومرسمه وعونه وسنده. ولزوجة أمير الشعراء أحمد شوقي كل الفضل في انطلاقه بالحياة، حيث ساندته بمالها وأعانته على قضاء حاجاته إلى أن وقف على قدميه وبرز اسمه ومكانته بين أقرانه. وفي قصة الأديب العربي «طه حسين»، نموذج لإيثار الزوجة، سوزان الفرنسية، التي تعرفت عليه وهو كفيف، فكانت عينه التي يرى بها العالم، فساعدته على إتمام دراسته وتجاوزت معه مصاعب الحياة، فتقاسما كبد الحياة سويا، فعاشت معه الزوجة والرفيقة والحبيبة والأم المنجبة. كثيرة هي الأمثلة والنماذج التي تتحدث عن الأثر التي تحوزه المرأة في حياة الكاتب الأديب، والمكانة التي يعلق فيها مثل هؤلاء المبدعين. وقد ظلت علاقة المرأة بالأدب هي علاقة وجود وتكوين، فلا نكاد أن نبحث في نص أدبي أو حياة أديب أو سيرة إلا ووجدنا خلفها امرأة ذات أثر وتأثير، يكمن بين المتخيل والواقع، ولا نكاد نبحث في أدب عربي أو غربيّ قديما كان أو حديثًا إلا والمرأة جزء منه، وسبيلًا إلى التعرف إلى علاقة المجتمع من خلالها، فهي رحم الحياة، وأصل وجود الإنسان، وإليها يعود الفكر، ويحن الوجدان. ** ** الناقدة د. سلطانة الرويلي - أستاذ فلسفة التاريخ والحضارة المشارك المشرف العام على إدارة المسؤولية المجتمعية (جامعة الجوف)