كما يتلوث الهواء فإن البصر يتلوث ويتسمم أيضًا، وذلك عبر إدماننا للشاشات كبيرها وصغيرها، ومن أفدحها شاشة الواتس التي تضخ على عيوننا ما لا حصر له من مدد لحظوي بكل أنواع المواد مكتوبة ومصورة وسمعية، وكلها تتسلل لعقولنا دون استئذان ولا اختيار ولا تمحيص. حيث نستهلك يوميًا صيغًا ثقافية لا حصر لها، وهذه الصيغ تفعل بعقولنا مثل ما يفعل الطعام في أبداننا، ومع إدماننا للخطاب الإعلامي فإن قوة الضخ المتواترة فيه تعرض عقولنا لنوع من التبلد المتمثل بالاستقبال السالب فتتعطل الحاسة الناقدة بسسب توالي الاستقبال، وهذا يمرر الأفكار والمعلومات دون رقابة أو تدقيق مما يجعلها تفعل فعلها الشعوري بأن تتحول من معلومة إلى شعور، ومثال ذلك رسائل الواتساب التي انتشرت مع وباء كورونا منذ مطلع 2020، ومنها تلك الرسائل التي تعتمد جداول غرضها التفريق بين الأنفلونزا وكورونا فتضع رسمة ترسم الفروق بين العطاس والتهاب الحلق والصداع والحرارة بتفصيل مرسوم بكلمات يحرص مصمم الجدول على إخراجها بحروف كأنها رصاصات نافذة تصب في أدق مناطق الشعور فتثير الهواجس كشعور يتحفز ليتفحص أي حركة في الجسم ويأخذ بتفسيرها وتصنيفها حسب الجدول الوارد، وهنا يتحول المرء نفسه/ها لتشخيص أي تغير في جسده أو في أجساد من حوله، ومن هنا يكون كورونا هو المعنى المتحكم في علاقتنا مع أجسادنا كما في علاقاتنا مع عموم الناس، فما أن يعطس أو يكح شخص من حولنا حتى يعم الذعر لدى الكل، ويضاف لهذا صور الكمامات على وجوه الصينيين أولاً ثم على العالم قاطبة مع فورة الوباء وبث الشاشات لتلك الصور ثم لتحولها لمسلك يومي، وكلها صيغ ثقافية بصرية تمهر في تسميم الأذهان وتحويل الاستقبال إلى كبسولات ثقافية تفعل فعلها في برمجة الخوف وزرعه في النفوس، وهذا مثال دقيق عما تفعله الثقافة البصرية عبر الشاشات مما أصبح سمة ملازمة لعصرنا في كل الحوادث التي تنجح في الوصول للشاشة وتتحول إلى خبر عالمي يورث تسممًا عالميًا وتتصنع به الذهنيات التي ما تفرغ من صورة حتى تغزوها صورة أخرى مما يحافظ على إيقاع الخوف ويجدده كلما هدأت النفوس، ولذا فإننا نحتاج لسياسة ذاتية في طرق التعامل مع الشاشات وخاصة الصغيرة منها (شاشة الواتساب) التي أصبحت مرضًا عصريًا يسيطر على كل لحظات حياتنا حتى في المنام مما يحولنا لمادة خاضعة لنوع من استعمار ثقافي يحتل عقولنا ويطوعها بحال من الإدمان المرضي الذي ينعكس قلقًا وجوديًا ومعاشيًا.