يعيش العالم العربي أو يحاول أن يعيش مرحلة ما بعد الأيديولوجيا، لم تكن هذه المرحلة الفكرية وليدة هذه الحقبة، بل لها تأسيس منذ سقوط جدار برلين على مستوى عالمي، أثرت على الفكر الغربي، وأنشأت فلسفة ما بعد الحداثة، أو ما سماه (باومان) الحداثة السائلة، إلا أن الفكر العربي في هذه السنوات يحاول الخروج من إشكال الأيديولوجيات العربية، بدءًا من تنظيم القاعدة وداعش، وحركات الإسلام السياسي، والعروبية، واليسارية العربية، حتى حزب الله والتنظيم الحوثي. فالذي يجمعهم هو التفكير الأيديولوجي بنسب متفاوتة. أَنهك الفكر العربي في مرحلته السالفة التخندق في أيديولوجيات شمولية تريد الخلاص للمجتمعات العربية، منها ما يطلب اللحاق بالغرب، ومنها ما يطلب العودة للسلف، وكلاهما اعتمد على الشموليات التي أثرت في الفكر البشري في بدايات القرن العشرين كالقومية الألمانية مع هتلر، واليسارية مع الاتحاد السوفياتي، فالحركية الإسلامية اعتمدت على التنظيمات الحركية اليسارية، والعروبية اعتمدت على قومية هتلر العرقية، واليساريين العرب اعتمدوا على اليسار السوفياتي، وهذا ما جعل جلّ المفكرين العرب في فترة سالفة منذ منتصف القرن التاسع عشر وما بعده ينطلقون من التفكير عبر هذه الأيديولوجيات، مما جعل عبدالله العروي يكتب (الأيديولوجيا العربية المعاصرة)، وعبدالوهاب المسيري يتنقل بين اليسارية ثم الحركات الإسلامية، وحسين مروه يتبنى اليسارية، والجابري انطلق من اليسار ثم إلى اليمين الليبرالي، وسيد قطب ينظر للحركات الإسلامية العنفية، وميشيل عفلق ينظّر للعروبية، وهكذا ماج التفكير الأيديولوجي بالفكر العربي حتى نتج عنه صراعات لم تنتهِ بل تطورت إلى تنظيم القاعدة وداعش. ولعل (الربيع العربي) هو المرحلة الفاصلة التي تريد أن تنهي هذه الأيديولوجيات من خلال كشفها والتعامل معها بوضوح وليس بإقصاء، لأن الإشكال كان بين هذه الأيديولوجيات قائم على شكل صراع ثنائي، فالعروبي الناصري يقضي على الحركي القطبي، ثم يأتي الحركي السروري لينقذ الحركي الإخواني، وهكذا كانت العلاقة بينهم علاقة صراع على السلطة، وتنظير لها، بينما مرحلة الربيع العربي التي أوصلت الأيديولوجيات إلى الحكم بسبب إقصائهم السابق، وبسبب تعاطف المجتمعات معهم نتيجة الإقصاء جعلتهم في مجال التعامل المباشر سياسيًا، بمعنى دخول صراع لعبة السياسة إذ لم يكونوا في السجون، فحصلت المواجهة مع الحكومااللاأيديولوجية الجديدة كالسعودية والإمارات وغيرها، وعليه صار الصراع علنًا بعد أن كان حربًا باردة وسجون وإقصاء، ومن هنا فإننا نلحظ انحصار للفكر الأيديولوجي وبروز للفكر اللامركزي حتى وإن كان من حكومات ملكية إلا أنها ليست أيديولوجية، وهذا ما يواكب الفكر العالمي اللامركزي التعددي، الذي يميل إلى التعددية الثقافية ولا يركن إلى أحادية في الفكر، وهذا لا يعني أن الحكومات المخالفة للفكر الأيديولوجي تعيش أعلى مرحلة من اللأيديولوجيا إلا أنها أقل تعصبًا في التعامل مع الحكومات العالمية الغربية والشرقية. ربما نكون في حالة تأهب كبرى لعيش مرحلة ما بعد الأيديولوجيا في الفكر العربي، لذا فإننا لا نلحظ حاليًا من يطرح فكرًا شموليًا كما نجده مثلاً في الستينيات وما بعدها، كما أننا نلحظ عدم تمكن هذه الأيديولوجيات من السلطة بشكل مباشر إلا في بعض الدول كقطر وإيران وتركيا بالوكالة. ومن هنا فإن المثقف العربي متحفز أكثر لعيش مرحلة ما بعد الأيديولوجيا، متحفز لعيش مرحلة العلوم ومرحلة العلاقة التعددية التي تقبل كل الثقافات لا كمركز وإنما كطرف آخر يمكن العيش معه. ما الذي نتوقعه لو وصل العروبيون إلى السلطة إلا حربًا جديدة كبرى على مستوى العالم العربي مع إسرائيل؟! وما الذي نتوقعه لو حكمت الحركات الإسلامية غير مقاطعة للامبريالية الأمريكية الكافرة؟! وما الذي نتوقعه من حكم اليساريين غير ثنائيات تقوم على الولاء والبراء مع الإمبريالية الغربية الكولونيالية؟! نتوقع منهم إعادة صراعات سابقة عاشها الفكر العربي وانتهى، لذا فإننا متحفزين إلى رؤية جديدة لا أيديولوجية، لا تمكن التحزبات الأيديولوجية من السلطة، وذلك ليس بالسجون وإنما بدخول لعبة الصراع السياسي. ** **