لم يكن الرئيس الفرنسي ماكرون حاذقا في سعيه لاستعادة مرحلة الانتداب الفرنسي القديمة 1920- 1943 م، لم يكن ماكرون يملك قدرا كافيا من الوعي التاريخي وقراءة الواقع السياسي المتأزم في المنطقة والذكاء الاستراتيجي بما يمكنه من استغلال التاريخ لخدمة المستقبل؛ بل أغرق نفسه في اللحظة العاصفة مستعجلا تسخيرها لصالحه ومستغلا تعطش الشعب اللبناني لمنقذ ومستفيد من لهيب الصراعات الخفية والمعلنة وتقاطعات المصالح على الساحة اللبنانية فبادر بزيارته السريعة الخاطفة المحملة بالوعود الخلابة بعد حادث تفجير القنبلة النووية أو ما يشبهها في المرفأ بيوم واحد ليسابق غيره في اختطاف زمام المبادرة لإيجاد حلول سريعة لتأزم لبنان متكئا على تاريخ الانتداب الفرنسي في لبنان الذي استمر ثلاثة وعشرين عاما، قاطعا الطريق على محاولة أية دولة أخرى لئلا تدس أنفها في قضايا لبنان ومشكلاته، زار ماكرون لبنان وفي مخيلته أنها لا زالت محمية فرنسية. استعاد ماكرون شخصية المنتدب الفرنسي الجنرال «غورو» قبل قرن من الزمان وتجول في منطقة مرفأ بيروت المنكوبة واختلط بالجماهير اللبنانية الموجوعة بحادث التفجير الإرهابي والمتطلعة إلى التعلق بأية بارقة أمل لإنقاذ لبنان وإخراجه من أزماته وفشله كدولة وتحييد الطبقة السياسية الفاسدة وبتر الصراعات وتجاذبات المصالح بين المنتفعين وتخليص لبنان من المليشيا العميلة لدولة إقليمية خارجية. كان المنتدب الفرنسي العصري الجديد «غورو» يخاطب اللبنانيين كشعبه أو محميته أو كإقليم من أقاليم دولة فرنسا وبجانبه الجنرال ميشيل عون الذي لم يجرؤ على تفقد المدينة المنكوبة إلا في ظلال وحماية الجنرال غورو وفي معيته مستمعا أو مستمتعا أيضا بالوعود الخلابة التي يمنحها المنتدب الفرنسي الجديد لشعبه المتعطش الباحث عن الخبز والكهرباء والأمن والدولار والأمل في حياة كريمة. كانت الجموع المحتشدة حول غورو المنقذ ومن أمامه وخلفه تتصايح وتهتف له وتعاهده ألا يضع دولارا واحدا في يد من يستظل بظله جانبه أو زمرته، لم تكن ترى إلا الجنرال غورو الذي انسل من التاريخ ببزة مدنية عصرية، كان ماكرون وهو يتجول بين الجموع الموجوعة لا يعيش اللحظة الفارقة المتوترة فحسب؛ بل يتخيل نهايات الحرب العالمية الأولى وسقوط خلافة بني عثمان التي احتلت المنطقة العربية حين تم الاتفاق بين المنتصرين على تقاسم ممتلكات الخلافة العثمانية البائدة التي كانت تحتل المنطقة العربية أو معظمها، وفق معاهدة سايكس - بيكو 1916م. انفصل ماكرون عن الواقع مرتميا في أحضان انتصارات الحلفاء متناسيا أن بين عام 1920م وتفجير مرفأ بيروت قرن من الزمان تغيرت فيه التوازنات الدولية واستعادت فيه دول عربية مقومات وجودها وتشكلت فيه تحالفات جديدة، فلا فرصة متاحة أمام غورو العصر لانتداب فرنسي جديد! ومع الأسف يجهل ماكرون أن أجداده الفرنسيين هم الذين شكلوا لبنان بصورته الخاطئة، وهم الذين أشرفوا على صناعة «الميثاق الوطني اللبناني» القائم على تكريس العمق الطائفي والديني والإثني ليظل قطعة فسيفساء متنافرة الألوان متنازعة المصالح متصارعة المرجعيات. فهل جاء ماكرون ليصلح ما أفسده أجداده أم ليعيد ولادة لبنان مشوه جديد يحمل عاهاته وأمراضه المزمنة معه ؟!.. يتبع