دراسة العالم القديم جهد عقلي غير بسيط، أقول هذا لأن الحيرة في الأشياء والعجز عن تفسيرها أشد وطأة على الإنسان من الجهد العضلي. فالجهد العضلي يشبه الماء لجاري الذي له منفذ، بينما الحيرة والعجز عن تفسير الأشياء يشبه الماء الجارف الذي يرتطم ويستدير حول نفسه، وهذا هو حال دراسة الآثار ودارسها. فالباحث في مجال الآثار سيقرأ أشياء خرساء عمياء، يحاول أن يجعلها تنطق وترى لتساعده على تفسير وجودها، أو تاريخ ولادتها، أو شخصية وانتماء مستخدمها. يحاول الباحث فيها من كل جانب يلتف حولها، يسأل جارتها ويُسائلها، يقارب بينها وبين ما يمكن أن يشابها أو يحمل خصائص قريبة من خصائصها. ولكنه في أغلب الأحوال يفشل في محاولته أو محاولاته، وهذه الغالبية لا تعني أنه لا ينجح في مرة ومرة. وما أطول الوقت الذي يحتاجه الباحث ليصل إلى نهايات القضايا البحثية! تلك النهايات التي تُعد بدايات لقضايا أخرى. إن الحيرة في الدراسات الآثارية أزلية، حتى وإن استطاع الباحث أن يصل إلى نتيجة تبقى النتيجة متأرجحة بين اليقين والشك، وما يقع بين اليقين والشك هي الحيرة. فعندما يجد الباحث مسرجة مصنوعة من الصلصال فمباشرة يستطيع أن يصل إلى تفسير ذلك المنتج على أنه لإنارة إنسان عاش في مجتمع مستقر، ولكن من الجانب الآخر قد لا يصل الباحث إلى تاريخ المنتج، ولذا تبقى الحيرة ولكن بقائها يصبح نسبياً. وتبقى الحيرة كليا عندما يجد الإنسان منتجا لا يستطيع تحديد هويته وزمنه، فيبقى الإنسان يتساءل لوقت قد لا ينتهي. ومن الأمور المحيرة في الدراسات الأثرية عدم اكتشاف مستوطنات حجمها يتناسب مع عدد المقابر التي تم اكتشافها في بعض المواقع. فعلى سبيل المثال وجد في البحرين مائتي ألف قبر ركامي، وكل واحد منها يحتوي على عدد من القبور، بينما لم يكتشف مستوطنة يمكن أن تكون قد آوت عدداً من الناس يتناسب مع عدد المدافن المذكورة، فهذا الشيء محير وحيرته استمرت مع الباحثين لأكثر من مئة وخمسين عاماً، وقد تستمر لقرون عديدة، وربما تبقى إلى الأبد. ** **