في حديثها عن جهود د. ناصر الحلاوي تتحدث د. أمل سلمان مستشهدة بالرأي الذي يؤكد أنّ «بلاغة المسموع بحسب ما يتصور الحلاوي ترادف بلاغة الصوت أو بلاغة الدال، وتقف ضدًا لبلاغة المكتوب» وتأخذ بيدنا؛ لنصل إلى تسليط الضوء على جانب مهم في تاريخ البلاغة العربيّة، وهو نشأتها الشفاهية، وهذه النشأة جعلتها تتجه نحو السامع دون غيره من عناصر العمليّة الكلاميّة؛ لأنّ الإنسان تعلم التّكلم قبل الكتابة، وتخرج بنتيجة أنّ الكلام المنطوق أكثر قدرة على التعبير من المكتوب، وهي بذلك تؤكد ما قاله جاك دريدا: من أنّ «أفضلية الكلام على الكتابة متأتية من كونه على تماس مباشر بالمعنى». لقد فتحت د. أمل من خلال محاورتها لأفكار د. الحلاوي الآفاق حول العناية بما يُبث الآن عبر وسائل الاتصال المعاصرة من ضرورة تطبيق (بلاغة الصوت) في «عصر الشفاهيّة الثانية». وبالانطلاق من مقولة أمبرتو أيكو حول أهميّة اللغة المنطوقة في قراءة اللغة البصريّة، وبالاستئناس برؤية البلاغة الفرنسية عند رولان بارت التي دعا فيها إلى «ضرورة إعادة التفكير في البلاغة الكلاسيكيّة؛ لوضع بلاغة عامة صالحة للصوت المنطوق والصورة والإيماء» ننظر بأهمية بالغة إلى ضرورة تفكيك لغة الجسد المعتمدة على الصورة والصوت والصمت معًا من نبرة وإيماء وحركة وغيرها عند تماهيها مع بقية عناصر الفيلم السينمائي، من سيناريو وتصوير وفضاء وتدفق زمني ومؤثرات صوتية وسمعية وبصرية وتصويرية؛ لأنها تحتوي على البلاغات الثلاث (لغة-صوت-صورة) وباستثمار سرديّة المشاعر في فيلم - Inside Out (قلبًا وقالبًا) الذي تدور أحداثه داخل رأس الطفلة (رايلي) عندما انتقلت مع أسرتها من مدينة لأخرى لظروف عمل والدها، ولأنها لم تتعرف على حقيقة مشاعرها بعد جاءت السرديّة الفيلميّة للمشاعر في تسلسل مُحكم؛ لتصل بنا إلى مرحلة التّعرف والتّصالح؛ فانتقلت بنا إلى داخل عقل الطفلة التي لم تستطع التكيف مع حدث الانتقال إلى بيئة جديدة؛ لتوضح لنا رحلة تعرّف الطفلة على مشاعرها بعد أن تعرّضت لاضطراب عاطفي قلب حياتها رأسًا على عقب، فتتجسد مشاعرها على هيئة شخصيات تتفاعل مع بعضها تحت قيادة مشاعر الفرح التي تسعى لإعادة الشعور بالسعادة، لكنها في كل مرة تصطدم مع مشاعر الحزن التي تتسلل، وتختبئ على هيئة مشاعر أخرى كالخوف والغضب والاشمئزاز في «تجربة تتميز بالنشاط العقلي الشديد بين المتعة والمعاناة»، وهو ما يُعرّف به علماء النفس حقيقة المشاعر. وبين المتعة والمعاناة تظهر مشاعر أخرى معقدة أثناء التفاعل؛ لينتج عنها عدة أحاسيس مختلفة بذات الفلسفة التي تحدث عنها المعلم (Yoda) في فيلم (Star Wars) عندما وصف سريان المشاعر بقوله: «الخوف يؤدي إلى الغضب، والغضب يؤدي إلى الكراهية، والكراهية تؤدي إلى المعاناة» بالفلسفة ذاتها بدأت سردية المشاعر في الفيلم لتلفت الانتباه إلى أنّ «المشاعر بهذا النوع العالي من الإدراك تتطلب معرفة كبيرة بذواتنا؛ فمعظم الذين يعانون من التعامل مع مشاعرهم يصعب عليهم التعبير عن أنفسهم؛ فيصابون بالإحباط، فالغضب، فالعزلة» وهذا ما حدث مع الطفلة في الفيلم الذي دار حول رحلة مشاعرها إلى أن تعرّفت عليها، وانتهت بالتكيف واستعادة شعور الفرح بعد أن كانت تُعبّر عن حزنها مرة بالغضب ومرة بالاشمئزاز ومرة بالخوف. ولكل شعور من هذه المشاعر سيناريو خاص يتداخل عبر فضاءَين، (خارجي): تمثل في تصوير ردود الفعل الخارجية للطفلة، و(داخلي) داخل عقل الطفلة وهو الأكثر ورودًا في الفيلم. مما جعل النقاد يرون أن هذا العمل قد «نجح في إظهار الجانب الوعر من النمو الذي قد يغيب عن الأهل»، ولاسيما إذا عرفنا أن علماء النفس يؤكدون أن الدور الأصلي للمشاعر هو تحفيز السلوك «فهي ردود فعل على أحداث داخليّة وخارجيّة». سرديّة المشاعر في الفيلم تجعلنا نتفكر في كلّ ما يمكن أن يحدث داخل عقل الطفل عندما يمر بتغيرات في حياته، وبشكل عام ما يدور داخلنا جميعًا؛ فتحكّم المشاعر في وعي الطفلة نتج عنه تصرفات لم تُرضِ أهلها؛ ومن هنا تبدأ المشاكل حيث يُحاول كُلّ من الغضب والخوف والاشمئزاز الحفاظ على حالة الطفلة العاطفية أثناء غياب الفرح، فتبتعد أكثر عن والديها وأصدقائها الجدد، وبعد إعادة الذكريات الأساسيّة لمكانها تنهار بالبكاء مُعترفة لهم أنها تفتقد حياتها القديمة، ولا يمكنها ادّعاء السعادة طوال الوقت؛ فيُطمئنها والِداها وتُصبِح شخصيّة مشاعر الفرح والحزن أكثر تفاهُماً «فيشكلان ذاكرة أساسيّة جديدة»، تؤدي إلى نشوء شخصيّة جديدة، تجعل الطفلة تتكيف مع حياتها، مُشكّلة قناعة جديدة، تفضي إلى أنّ للحزن أهميته في حياتنا كما أنّ للفرح أهميته. نلمح في الفيلم سردًا ذا مكونات واضحة؛ فهناك البطلة (الطفلة) ووالداها اللّذان ساعد وجودهما في تسهيل سير الأحداث بطريقة منطقية، وهناك الشخصيات الأخرى (المشاعر الخمس)؛ فكل شعور له كركتر خاص على مستوى الصورة والصوت واللغة المستخدمة؛ فعلى مستوى الصورة توجد أدوات كثيرة، يمكن تحليلها، وأهمها في هذه السردية اللون؛ فاختيار اللون الخاص بكل شعور لم يكن اعتباطيًا بل جاء مستندًا إلى رؤية علم النفس في تفسير تلك الألوان؛ فالحزن أرزق؛ لأنه بارد، وهو من الألوان التي تحد من الشّهية للطعام؛ لذا كانت الطفلة كلّما حزنت تمتنع عن الطعام. والغضب أحمر؛ لأنّه مشتعل؛ فهو في علم النفس يُعبّر عن المشاعر القويّة التي تتحكم وتسيطر كما فعل الغضب في ابتكاره فكرة مجنونة كي تحدّ من حزنها فأغواها بالعودة إلى مدينتها القديمة؛ لكنها لم تفعل، فعادت كما نعود من غضبنا عندما لا نمضيه. لقد كان للخوف دور فاعل رغم نحوله، والهيئة الرثة التي جاء عليها بلونه الباهت؛ فهو قد أعادها لرشدها وعصمها من ارتكاب حماقات كثيرة كما يفعل الخوف الصحي في حياتنا، في حين جاء الفرح على هيئة شابة جميلة رشيقة في مزيج من ألوان البهجة، لا تخضع للون واحد بعينين جميلتين، تلقي بظلال رمزيتها على فعل الفرح في حياتنا؛ فالسعادة عندما تحل في الروح تسكب على كلّ زاوية مظلمة بهجة خاصة، تجعلنا لا نعود نرى الأشياء بسوداويتها التي كنّا نراها وقت حزننا، ويمكننا أن نُسقط تفسير الألوان على الشخصيات كافة وهيئة لباسها والفضاء بشكل عام. والأمر ذاته يصدق على تحليل الجزئيات المتعلقة ببلاغة الصوت، من نبرة (ناعمة- خشنة) وغيرها؛ إذ إنّ كلّ شعور له نبرة تتناسب مع معناه، وله تعابير حركيّة خاصّة، تتناسب مع دوره. كما أنّ لهذه الشخصيات عالمها اللغويّ الخاص من حيث المفردات، والمصطلحات المستخدمة التي تُسهم في تنفيذ الدّور؛ ليحقق غايته الإقناعيّة. لم تؤثر السرعة في أداء الجمل على خط سير الرسالة التي أراد الفيلم لها أن تصل على أكمل وجه؛ فهي لم تكن تستند إلى الصوت، وتدرج نبراته وبروز انفعالاته وحسب، بل كان لكلّ شعور صورة وملامح ونبرة وإيماءات خاصّة، تربط بين المنطوق والمرئي والمسكوت عنه؛ لتكون الصورة الكبرى التي تتضمن اللغة والصوت والصور المتحركة والصامتة أكثر إقناعاً. السرد بمعناه الأكثر شموليّة كان حاضرًا في هذه السرديّة من خلال النسق التتابعي الذي جاء وفق نظام رُوعي فيه الترتيب الزّمني، وكان هو النسق المهيمن على الفيلم، كما جاء تداخل المكونات في النسق التّداخلي بفعل الوقفات، وتدخّل السعادة في محاولة السيطرة على بقيّة المشاعر، كما برز نسق التّوازي من خلال رحلة الفرح في إعادة ذكريات السعادة بمعيّة الحزن في لقطة كان شعور الفرح والحزن يتعاصران فيها زمنيًا كما يحدث معنا ونحن نحاول أن نصد انثيال الأحزان بتذكر تفاصيل الفرح. لقد جاء فضاء الفيلم بين مكانين: مكان الواقع الذي تعيش فيه الطفلة، والمكان المتخيل (رأس الطفلة)، وكان تدفق الزمن بين المكانين يتراوح بين الحذف والاستباق. أما الشخصيات فمن حيث بلاغة الصورة من خلال الملابس والألوان والملامح ونوع الفضاء، ومن حيث (بلاغة الصوت) المتمركزة في نبرات الصوت وطريقة الأداء والإيماء بوصفه (لغة صامتة)، ومن حيث (بلاغة اللغة) التي لا يمكن فصلها عن سابقتيها من خلال السيناريو الذي جعلها وفق هذه البلاغات التي تتبادل التأثير والتأثر بسلاسة مقنعة. لقد أولى المخرج أهميّة بالغة لوصول وجهات النظر بطريقة مقنعة من خلال اختيار اللقطات، وسيرورة السّرد؛ وهذا ما جعل الحوار يؤدي دوره بطريقة مميزة؛ فجاءت بنية الفيلم الافتتاحيّة ذات دور محوري مهم؛ فقد صُمّمت بطريقة منطقيّة، تماشى معها العرض حتى وصل إلى النهاية حيث تطالعنا هيمنة مشاعر السعادة على الطفلة عند مولدها، وفي فترة طفولتها المبكرة قبل أن تصل إلى المرحلة التي تبدأ فيها بقية المشاعر بمزاحمة الفرح. كلّ هذا تم من خلال التركيز على بلاغة الصورة الكبرى التي تتداخل فيها بلاغات أخرى، تتمثل في الصوت واللغة. نحن أمام بلاغة متكاملة، يمكن أن نسميها كما سماها رولان بارت (بلاغة عامة)، ويمكننا تقسيمها إلى ثلاثة أقسام رئيسية: (صورة- صوت- لغة). فنحن بحاجة ماسة لربط الدرس البلاغي بالواقع عن طريق استعادة مكانة البلاغة الشفاهية التي كان يُحكم من خلالها على بلاغة المسموع، وربما المرئي عندما كان الشاعر والخطيب يقفان بهيئتهما وطريقة نطقهما ولغتهما التي تميزهما عن غيرهما أمام النّقاد، وكل ما علينا فعله للوصول لهذا النوع من البلاغة هو أن نفكر بجديّة لوضع آليّة دقيقة، تتيح التحليل وفق هذه الرؤية الثلاثية التي تتطلبها لغة العصر. فتفسير بلاغة الصورة المتحركة من خلال نقد الفيلم السينمائي دون الاعتراف بضرورة تحليل الصوت واللغة أمر عبثي؛ فالصوت واللغة ليسا من مكونات الصورة، وهذا التهميش يجعل النقد السينمائي غير دقيق؛ بدليل ظهور حسابات تعتني باقتباسات الأفلام اللغوية، ولا تُعير أيّ اهتمام للصورة. كما أن البلاغة السينمائية المقترحة تتيح للباحثين تحديد عنصر التحليل؛ لتكون الدراسة أكثر دقة، كأن يكتفي الباحث بتحليل البلاغة الصوتية في أفلام ذات تصنيف واحد، أو تناول بلاغة الحوار السينمائي في أفلام حقبة زمنية بعينها، وهكذا. لم تعد الأفلام في حياتنا ترفًا بل ضرورة؛ فهي الخطاب المسجل، والمحاضرة الملهمة، والفيلم الوثائقي الذي نستند إليه، وهي الترفيه الهادف إن أحسنا الاختيار. كما أنّ الفيلم الهادف لا يقل جمالاً عن الأدب المكتوب، والميل لمشاهدة فيلم هادف بحوارات ملهمة أيسر من قراءة كتاب؛ لأنّ المشاهدة تحرك أكثر من ملكة، وفي ذلك يقول ألكسندر استروك: «صانع الفيلم مؤلف يكتب بآلة تصويره مثلما يكتب الكاتب بقلمه». ** **