أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي، الوسيلة الوحيدة لتبادل التهاني والتبريكات والتعازي ونشر المقالات والأشعار، وأصبح مصدرًا للثقافة والعلم وتبادل المعلومات، وسيّطر على عقول الناس، وغدا رفيق حياتهم لا يستطيعون مغادرته والتخلي عنه في ليلهم ونهارهم، وأخذ منهم بهجة السهرات واللقاءات العائلية، وجاءت الجوالات وبرامجها لتشارك في هذا الصراع!! جاء «الواتس أب» بانتشاره الهائل يطرق الأبواب دون استئذان؛ ليوقظ النائمين، فاشتدّ عزمه على قهر المزيد من البشر؛ الذين تسمّرت أعناقهم وهم يكتبون أو يرسلون المنشورات عبره، جعلوا منه ثقافة يوميّة؛ يتبادلون ما يصل إليهم أو يخطر على بالهم، خاصةً وأنّ مافيا ثقافيّة تقف وراءه؛ لا تملّ من الكتابة ونبش الأفكار والمقولات لتنشرها بين الناس، وتدفع بالمزيد والمزيد، ولا تعبأ بمحتويات ما تُرْسِل إنْ كان غثًّا أو سمينًا، وما يهمّها سوى أنْ يستمر شلال المعلومات البائس. تستيقظ في الصباح؛ تفتح جوالك لتجد عشرات الرسائل، منها ما يُصبّحك ويبشّرك بيومٍ سعيد، وأخرى تُحذّرك من أطعمة مزعومة مسمومة، أو ترشدك إلى مكانٍ ما لتقضي فيه وقتك، أو تنصحك بتجنّب أعمالٍ مشكوكٍ في ضررها، أو تطلب منك قراءة مقالة أو حديث أو مشاهدة فيلم، فتبدأ يومك وقد نفخ «الواتس أب» في ذهنك مفاهيم وأفكار عابرة، قد لا تستقرّ في دماغك سوى ثوانٍ معدودة ثم تغادرك دون رجعة. لقد جلبت المدنيّة الحديثة واختراعاتها وتقنياتها المتقدّمة وسائل ووسائط، لم تكن متوفّرة عند الآباء والأجداد، فقد كانوا، رحمهم الله، يفيقون من نومهم ليسلّموا على من هم في بيتهم، ويتبادلون النصائح والإرشادات، ويستعدون بكل عزمٍ وإرادة على بدء يومٍ جديد؛ بينما تغيّرت الأحوال اليوم، فيستيقظ الأب والأم والولد والبنت، ليفتحوا جوالاتهم، ثم يحدّقوا في شاشاتها، ويقلّبون صفحاتها، حتى قبل أنْ يغسلوا وجوههم أو يتناولوا فطورهم!! كثيرًا ما نقرأ معلومات غريبة مُرسلة لنا على «الواتس أب»، تفاجئنا بمعانيها وكلماتها، فتعْلقُ في أذهاننا؛ نظنّها صحيحة، فنعيد إرسالها ونشرها، ونبعثها للأصدقاء والأقارب، ثم نكتشف، بعد فترة، أنّها مكذوبة ومغلوطة!!... أو نتبادل فيما بيننا أحاديث نبويّة أو أخبارًا؛ نعرف لاحقًا بأنّها موضوعة أو مكذوبة، ثم نحاول أنْ نقف في وجه انتشارها، فلا نستطيع لأنّها أصبحت تيارًا جارفًا، لا يمكن التصدّي له!! لم يعد هناك من شكّ بأننا أصبحنا أسارى هذه التقنيات الحديثة، أخذت منّا الأولاد والبنات، وخرّبت النفوس وشتّتت العوائل والأسر، وأغرقتهم في الوحدانيّة والأنانية، وعزلتهم عن محيطهم، وأصبح الجوال و»الواتس أب» هما الصديق والرفيق والأبّ والأمّ والأخ والأخت؛ تنحني لهما الأعناق وتحدّق فيهما العيون وتسهر عليهما وعلى منشوراتهما. امشِ في الشارع أو ادخل أيّ محلٍ أو مطعم، سوف تجد الشباب واليافعين وغيرهم، وقد فتحوا جوّالاتهم لقراءة منشورٍ سخيف، أو لتبادل نكتة أو للنظر إلى صورٍ غير لائقة؛ فتعجب كثيرًا، وتتساءل في نفسك: كيف أصبحنا عبيدًا لهذه التقنيات الحديثة، وهل هي نعمة أم نقمة!! عندما كنّا صغارًا نُعيّر الواهنين والضعفاء من أقراننا بأنّهم لم يرضعوا من حليب أمهاتهم وإنّما تربّوا على حليب «النيدو»، ولنْ تمضي فترة طويلة، حتى يظهر جيلٌ جديد، تربّى على ثقافة «الواتس أب» والجوالات!!... فقد كنّا نعيّر أقراننا بأنّهم لم يكتسبوا المناعة الكافية لمقاومة الأمراض، بينما قد يأتي جيلٌ آخر فاقدٌ للمناعة الفكرية، يسهل على الآخرين غزوه بعد أنْ ربوه وأرضعوه من حليب «الواتس أب».