ما أن نقل لي الناعي نبأ رحيل الأديب والباحث والأكاديمي والإنسان المرموق الأستاذ الدكتور عاصم علي حمدان -رحمه الله- حتى تذكرت على الفور قول أحد الفلاسفة: (إننا نحتضن كل شيء ولا نقبض إلا على الهواء)، وهذه هي الحقيقة التي فرضتها علينا معطيات العصر الحديث وانشغالاته عندما لا نشعر بالأشياء في وجودها فيما يزداد شعورنا بفقدها عند الغياب. رحل عاصم حمدان بعد أن ملأ حياتنا بالهديل وأمعن في الحنين إلى الأرض وجبال الذكريات ونشيد الأيام ونخوة الزمن الجميل، رحل هادئاً أنيقاً ملتحفاً بالصفاء والنقاء وبجبين يشرق بالحلم الوضاء الذي كنا نلمسه في سمته وحكمته وصدق بيانه وكلما أطل علينا بوجهه وغترته الناصعة البياض التي كان يرتديها ولم يتركها منذ أن عرفناه والتي تنبئ عن روحه الصافية الطاهرة المفعمة بالإيمان والأصالة والوفاء. رحل عاصم حمدان بلباقة النبلاء مزملاً بالحب متفادياً الضجيج، ومع رحيله الهادئ اختصر المسافات ورحل بنا من جديد لنستدعي كل ما جاءت به الفصول على مراحل العمر وما لون به أفكارنا برائحة الحبر وبيض الصفحات وما سطره من نث وحث وبث وهو يفضي بنا إلى زقاق الثقافة والمعرفة المنسابة من حقول الزمان التي كان فيها الإنسان وسيد المكان. وبعد أن فتح أمامنا أفقاً يمتد مداه ومداده وما سجله في تلك المشاهد والخطى التي خطاها الراحل من جوار المسجد النبوي الشريف وحصواته ومراتع الصبا وموطن الذكريات في قباء وحارات المدينة وأزقتها في العينية والمناخة وحي الأغوات وحي الشامية بمكةالمكرمة وما اتسعت له ذاكرته من مئات الأسماء والشخوص التي كانت لا تغيب عن ذهن (الفتى) عاصم حمدان وسطرها وأثبتها في كتبه وبحوثه ومقالاته، فإنه أيضاً وبعد رحيله وبعد أن أصبحت المسافة بين الأجساد أبعد من التضاريس التي تحيط بنا فهو لن يغيب من ذاكرتنا ومشهدنا بما تركه في نفوسنا ووجداننا من كريم السجايا والمواقف وبما خلفه لنا من إرث تراثي وعلمي وثقافي وعشرات الدراسات والأبحاث والمؤلفات وسيل الذكريات التي تشهد بحبه المتدفق للمدينتين المقدستين مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة والوفاء لمن رافقهم وعرفهم في مسيرة حياته، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح الجنان. ** **