من المعلوم أن النصوص الشعرية الجيدة تستثير المقاربات النقدية المتعددة التي يمكن تطبيقها عليها وتحليلها في ضوئها. ومن هنا ستأتي مقاربتي هذه لديوان «يوشك أن يحدث» يليه «مرآة النائم» للشاعر أحمد الملا، انطلاقًا من فرضية أساسية، مؤداها أن الدلالة في الوحدة الشعرية الأولى في العنوان «يوشك أن يحدث» تتولد انطلاقًا من وحدات صغرى، هي القصائد التي يتضمنها الديوان، لكنها في الآن ذاته تنعكس مرآويًّا على الوحدة الشعرية الثانية «مرآة النائم» في شكل انعكاس مرآوي متبادل بين التمثلات الإبداعية في كلتا الوحدتين. ولا شك في أن لكل تجربة إبداعية مؤثرة رؤية، ولكل رؤية مكونات أو مرتكزات فنية، ترتكز عليها في تحقيق إثارتها وحراكها الجمالي. وأساس هذه الفرضية نظرية المرآة في اللسانيات المعرفية، سواء مع بيكر أو جاكندوف حيث يثبتان، على العكس من تصور تشومسكي، أن التركيب مكون غير منعزل عن باقي المكونات الصرفية والصوتية والمعجمية وغيرها؛ فهناك انعكاس مرآوي متبادل بين هذه العناصر. ومن هنا سنحاول تبيُّن عمل هذا المبدأ دون الدخول في تفاصيله اللسانية من خلال قراءة هذا الديوان الذي بين أيدينا. ولنبدأ أولاً بقراءة العناوين الآتية: لم يحدث من قبل / ما أبحث عنه/ عليك أن تدركه/ أدركته الحياة/ العام الفائت... إلخ. ونتساءل: أليست هذه العناوين هي بمنزلة مركبات اسمية أو فعلية، تدل على المخاض بين الذي لم يحدث قط والذي ما زال لم يحدث بعد؟ فإذا اتجهنا إلى الوحدة الشعرية الثانية سنجد صدى هذه العناوين وانعكاسها المرآوي واردًا في العناوين، مثل: موسيقى تنبأت بكارثة/ يجهلون البحر/ رغبة .. إلخ، بحيث يمكن بناء دلالة نووية في كلتا الوحدتين، هي المخاض أو الولادة العسيرة. وهي تفسر أيضًا بوحدات دلالية تنبئ بالرغبة والفرح المؤجل والهواجس المحتدمة في قرارة ذاته العميقة. فالشاعر يعلن منذ البدء عن مخبئه حيث تختفي صرخته، وحيث تتردد بين الجدران وغياهب الليل: خبّأت صرختي لمزيد من الندم لم أفلتها سهوًا عضضتُ عليها ولن أفرّط في إطلاقها، ..... تفتّتُ حجر القلب تزحزحُ جبلا وتحفرُ مخبأً للصرخة. إن المتمعن في هذا المقطع يلفت انتباهه أن الشاعر يحكي عن صرخته، ويبني لها مخبأً؛ فنحن أمام دلالة الذي لم يحدث من خلال وحدات دلالية ذات معانٍ إيحائية ومباشرة في الآن ذاته.. مثل: تفتّتُ/ لم أفلتها/ تزحزحُ/ ولما يحدث بعد.. بمعنى أن دلالة المخاض النووية التي تم تحديدها آنفًا للقراءة تنمو وتتشكل عبر متواليات حكاية الشاعر. وهنا تأتينا المرآة بالعنوان الآتي «لم يحدث من قبل» يقول الشاعر: هذا كلُّهُ لم يحدثُ من قبل لم نقع في الأسى بعدُ سقطتِ الأيامُ أمامنا متعثرة في الدّرج ولم يعرف أحدٌ من صعد السطح؛ وقعهُ غامضٌ مطرُ الليل، وعاجزة كلماتٌ توقّعنا صوابها. ألسنا هنا أمام المجهول؟! فدلالة الاختفاء والخواء والعدم تتراكم كما هو واضح في الوحدات «هذا كله/ لم يحدث بعد/ صدى يرتطم/ خواء جاثم على تلة النهار/ يد مبتورة/ ريح تتهيأ/ محو الفراغ..». إن تلك الدلالات المحتدمة في مجريات القصيدة وتعميق فاعليتها هو ما يبحث عنه الشاعر في نص «ما أبحث عنه»، وهنا جاءت أسئلته الحوارية تدور في هذا الجانب؛ فيعلن الجسارة والمقاومة رغم وفرة الدلالات الاغترابية التي تفيض برؤاها الوجودية مما يعكس دلالات الفقد والغربة الوجودية التي يقاسيها في عالمه الوجودي، وحنينه إلى أطياف الذكريات التي لا تغيب عن ناظريه. يقول: أضعتُهُ من يدي مبكرًا وأنفقتُ حياتي أفتّش عنه.. أحيانًا أصفهُ على هيئة مفتاح، أحيانًا أناديه بأسماءٍ لا يعرفُها، وأحيانًا أتخيّلُ لُقياه بيسرٍ مثلما أجدُ نظارة القراءة معلّقة على طرفِ أنفي، ومرارًا ألتقي بما ضيّعه غيري وأضعُهُ جانبًا؛ مستغربًا بحثهم عنه لخفّتِه.. إن صورة: وأنفقتُ حياتي، صورة مشابهة تتراكب على كل المشابهات الموالية انطلاقًا من مشابهة الضياع: أحيانًا أصفهُ/ أحيانًا أناديه/ أضعتُهُ من يدي/.. ويمكن البرهنة في مستوى آخر على دلالة الفراغ الذي لم يحدث بعد ولمّا يحدث أيضًا من خلال نسيج الوحدات الصغرى/ النصوص؛ ذلك أن النسيج الخطي ينبئ بهيمنة البياض على السواد، فالسواد/ الخط - كما يقول السيميائيون - هو حياة تدبّ في كون الصفحة بينما البياض هو عدم أو موت، وذلك واضحٌ في جميع نصوص الوحدتين الشعريتين الكبريين حيث يهيمن البياض الطافح على الصفحة؛ ليعلن أن الشاعر توارى عن الوجود، كما يشي هذا البياض برؤى وصدى لأحاسيسه المتوترة، ودلالات محتدمة مبثوثة بكل حراكها الشعوري المناور بين المواجهة الصريحة/ والمواجهة المواربة، بل ترك راويًا شعريًّا يخاطبنا باسمه، وينبئنا بطموحه ورغبته المفقودة، وهنا نتدارك العنوان «عليك أن تدركه»، فهل يستطيع الشاعر أن يتدارك ما لم يكن، وما لم يحدث بعد، وهي رؤية فلسفية تقودنا إلى عمق فلسفة الوجود، سواء عند جون بول سارتر وهايدجر، أو عند الشعراء الوجوديين أمثال المعري وأدونيس وغيرهما حيث تتشابك الأحلام بالوجود الذي ينبئ عن اللاوجود. وتستوقفنا في الصفحة الثانية والعشرين من الديوان صورة تشكيلية، يكشف نسيجها عن دلالات مرآوية انعكاسية كذلك، فهي في الظاهر تشكيل لصورة امرأة بقرط واحد، لكن ينعكس عليها تشكيل حيوان ما أعلاها، فتصبح الصورة بعينين لكائنين، هما الإنسان/ الحيوان، وكأننا أمام ولادة الكون الذي لم يولد بعد، وما زال في المخاض أو طور التنبؤ، يقول الشاعر: قريبةٌ تتحيّن، تداري ما بينكما وتنتظر قدومَك، عبر الصدفة ربما وأحيانًا من خلال انحرافٍ لن تتوقعه ... يقينك الوحيد أنها ستنفجرُ أمامكَ قبل أن تدركَها. إن لعبة المرآة التي قمنا بتوظيفها في نصوص الوحدة الشعرية الأولى نجد لها موازيات مرآوية في الوحدة الشعرية الثانية؛ ذلك أننا سنوظف مبدأ التوازي الشعري الذي يوازي بين وحدات متعددة دلالية وصوتية ومعجمية وتركيبية وفضائية في سياق للتمثل الشعري المتوازي، ولنقرأ على سبيل المثال توازي دلالة العدسة المكبرة، فهل يستطيع الشاعر رؤية ما لم يره من قبل؟ تعجّلنا الحياة يوم كنا صغارها وصار لكل منا عدسة مكبرة مثلما وصفها كتاب العلوم المدرسي، حملناها وقسنا من خلالها الكون. فهذا المقطع دلاليّا هو اكتشاف المجهول أو محاولة لاكتشافه: يتوازى أيضًا مع مقاطع شعرية عدة في القصيدة نفسها: أول ما رأيت أبي.. طويلاً وشاهقًا وتأكد لي أنه قادر على فعل ما يعجز الرجال أفعال لا يقوى غيره فعلها ... إن تراكم وحدات دلالية بالتوازي، وهي تنتمي إلى جزئية من جزئيات حياة الراوي/ الشاعر مثل: عدسة مكبرة/ كتاب العلوم المدرسي/ النخلة العجوز/ تمرها.. يشير إلى أن الشاعر ما زال يتفقد الوجود، وما زال في محاولة للكشف عن مجاهيله، فكلما اتضحت الصورة أصبحت غامضة من جديد، وأصبح معها الصراع الوجودي يتخذ أشكالاً أكثر قلقًا؛ لنتأمل قول الشاعر: كبرت قليلا صغرت العدسة، وصارت منظارًا يقرّب ما أشاء الجار الغامض سقف في حوش بيته أطل من فوقه الطين أقرّبه من زجاج العدسة حتى يكاد يغدو عملاقًا محبوسًا في القصص المصورة. فكما يقول علماء النفس المعرفيون: المتكلم ما هو إلا متمثل للسياق انطلاقًا من تجاربه السابقة والآنية. فالشاعر هنا يتمثل سياقه تارة بالعدم، أو بالتفاصيل الصغرى التي سرعان ما تزداد حجمًا، فتزداد غموضًا. وتلك مأساة القلق الوجودي الدائم. فالمقطع السابق ينمو عبر أسطره بؤرة معلومة جديدة، هي: ازدواجية الظاهر والباطن، أو المعلوم والمجهول.. ويوازي تلك الدلالة المرآوية تراكم صوتي: حيث يتوازى صوت السين بين السطر الأول والسطر الثاني والسطر الثالث: أجلس في الصف الرابع بمدرسة الفتح قرب النافذة أرقب السجن ويرقبني بعدستي أجرّه ... وهو ما يوازيه أيضًا توازٍ تركيبي للفعل المضارع «أجلس/ أرقب/ أجرّ». إننا أمام عدسة لرؤية الكون، وما هي في الحقيقة إلا «مرآة للنائم» حيث تتكرر نواة المرآة في هذا المركب الاسمي «مرآة النائم»، وهو عنوان الوحدة الشعرية الكبرى الثانية: إننا نجد مقوم الحلم سواء في الوحدة/ المرآة أو في الوحدة/ النائم ممثلاً لتشاكل الرؤية؛ ذلك أن الحلم مرآة اللاوعي، أو الوعي الباطن، كما أنه مرآة للنائم يطلّ من خلالها على أحلامه المفقودة وعلى العالم.. ويتحوّل النص الشعري عند الشاعر أحمد الملا إلى حكاية للمكشوف، حيث يتقمص الراوي الشعري دور راوٍ للسرد في الحكاية مع تمدد الأسطر، وتقديمها لحكاية أو حتى حكايات، وكأن الشاعر يسرد مروياته من خلال تكريس الكثير من اللقطات المشهدية بعدسة الكاميرا التي تلتقط المشهد عن قُرب وبُعد بمونتاج يرصد الأحداث بتفاصيلها ورؤاها الدقيقة، ونبضها الروحي، يقول: «جاري لم آخذه على محمل الجد منذ طفولتي؛ لسبب وحيد، كدت أنساه من فرط خفته. حين أسرّ لي أول مرة عن جسده الذي ينقص ويذوي كلما طالع في المرآة.. وقتها ضحكت ودمعت عيناي، ورأيت في ملامحه كيف اتخذ قرارًا سريعًا بعدما اكتشف مدى فداحة قوله، فلم يعد يذكر المرايا، وألغاها من كلامه؛ ولهذا نسينا هذا السر أو هكذا ظننت. ورغم تجنبه المرايا، وتفادي المرور أمامها في كل مكان، وانقطاع حديثه عنها، إلا أنه أشار مرة بين أصدقاء مشتركين إلى معرفته طريقة فريدة في الانتحار دونما ألم، يخبئها تحت سريره منذ سنين، ولم أربطها بالمرآة لولا غمزته الخاطفة لي. كبرنا ونسينا ثانية، مثلما عاش، وحيدًا بلا مرايا، يرعى أمه بعطف وحنان متبادلين، حتى عشق أختي الصغيرة أو أحبها بجنون حسب قوله. لم يبح بذلك لأحد غيري، وكلما قلت له حدّث أمك لتفرح لك، صفن وقال إنها تشعر بذلك، أراه مطبوعًا في وجهها وهي تتفادى أن أصرّح به. هكذا بدأ حال أمه يسوء وصحتها تذوب حين جاءني قائلاً: لا أستطيع أن أفقد أمي وأشهد تلاشيها أمامي، وليس باستطاعتي محو حبي لأختك، على الرغم من محاولتي الشاقة في التظاهر بالنسيان، لكن قلب الأم مرآة». فكأننا هنا إذن أمام وحدات شعرية منعكسة مرآويًّا على بعضها البعض، دلاليًّا وصوتيًّا ومعجميًّا، لكنها تأبى إلا أن تنتهي عبارة عن حكاية غارقة في التفاصيل، لكنها تفاصيل كمن يسحب الكون من عدسته: «وكأنما لمحته فيها/ ضحكت في سري ودمعت عيناي». فالمشابهة هنا تعزز الغموض واللايقين واللاوجود. فالصراع السيميائي بين الوجود والعدم والغياب والحضور داخل الحكاية الشعرية هو تعزيز للمرآوية التي يسقطها الشاعر على القصيدة وعلى العالم.. هكذا، انطلقنا من فرضية الانعكاس المرآوي في نصوص الشاعر، فوقفنا على توليد الدلالات بناء على مبدأ التوازي المتعدد الذي يتجاوز الدلالة نحو المكونات الصوتية والتركيبة والبلاغية: وقد قادنا هذا التحليل الذي قمنا به في هذه القراءة إلى استنتاج رئيس مفاده أن: الشاعر يبحث عن وجود، هو العدم.. يعكسه على قصائده وديوانيه في شكل متوالية حكائية، تشير مكوناتها إلى أن العدم ما هو إلا رفض لواقع البطل في الحكاية. ** **