بعيداً من المقاربة النقدية السياسية التي باتت شبه جاهزة يمعن الناقد سعيد أبو خضرة في قراءة الشاعر محمود درويش انطلاقاً من قصائده متحرياً الدلالات اللغوية وتطوّرها في مراحله المختلفة. والكتاب عنوانه "تطوّر الدلالات اللغوية في شعر درويش"، وصدر حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت - عمان 2001. البحث النقدي الذي يقدمه الباحث سعيد جبر أبو خضرة تغلب عليه السمة الأكاديمية، ولا يخلو من اشكاليات البحث الإكاديمي، لكنه - في الوقت ذاته - ينطوي على قدر من الإبداع في التحليل والتشريح لعناصر من اللغة الشعرية في تجربة الشاعر محمود درويش. في اطار محاولة رصد تطور الدلالات اللغوية في شعر هذا الشاعر، معتمداً - في صورة أساسية - رصد التطور التراكمي البسيط للدلالات، من خلال التتبع الزمني للصورة والمجاز والاستعارة والتناص. في هذه التجربة الشعرية الممتدة من ديوان "عصافير بلا أجنحة" 1960 حتى ديوان "أحد عشر كوكباً" 1992. لكن هذا التتبع الزمني لا يقود - منهجياً - الى اكتشاف التطور الكيفي للدلالة، بقدر ما يكشف عن تراكمها الكمي، وعن مراجعها في الثقافة كما في التجربة الحياتية... الفردية والجماعية، في الوطن والمنفى. يتكون الكتاب من مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة. في المقدمة اشارة الى أهمية بحث التطور الدلالي في شعر درويش، حيث "دراسة هذا الشعر تشكل جانباً مهماً في دراسة التطور الدلالي في اللغة العربية الفصيحة المعاصرة، من ناحية، كما تشكل محاولة مهمة في تفحص الدلالة اللغوية في لغة محمود درويش - لكونه واحداً من نخبة الشعراء العرب المعاصرين - من ناحية ثانية". والدراسة هذه، بحسب الباحث، لتحديد مدى التطور الحاصل في الدلالات اللغوية في شعر الشاعر، وطبيعته وظواهره. وهي تقوم على القراءة النصية لإنتاج الشاعر في مراحله الشعرية المختلفة. في المقطع الأول من الفصل الأول، يرصد الباحث ملامح تطور علم الدلالة عربياً وفي الثقافات الأخرى، كمادة نظرية تمهد للجانب التطبيقي الذي يحتل بقية البحث 176 صفحة قطع وسط. ويبحث في العلاقة بين الدلالة وخصوصية لغة الشعر، وأهم ما يميز الدال - الرمز الشعري، وبعض المعالجات النقدية الحديثة لعلم الدلالة، ثم يتناول أهم الدراسات النقدية التي تناولت شعر درويش، وينهي الفصل الأول برصد موقف الشاعر درويش من تطوير دلالاته اللغوية، فيشير الى ان الشاعر "عبّر عن رفضه لبدايته الشعرية بحذف ديوان "عصافير بلا أجنحة" من المجلد الأول عندما أشرف على طبعه، إذ قال عنه "انه تعبير عن محاولات غير متبلورة"... ويحذف عدد من قصائد ديوانيه: "أوراق الزيتون"، و"عاشق من فلسطين"... الخ". ويقف على رأي درويش القائل ان تطوير لغته الشعرية قد اسهم في تطوير الوعي الجماهيري لشعبه ولقارئه، على رغم القطيعة التي أحدثها التطوير هذا مع بعض القراء...، ويركز على رأي درويش القائل "ان القصيدة الحديثة لا تستسلم للقارئ من أول لقاء..."، ورأيه الآخر "ان الشاعر لا يحاور أحداً خارج نفسه خلال "عملية الكتابة الشعرية". يبذل الباحث في الفصلين الثاني والثالث جهداً طيباً في تقصي دلالات المفردات والرموز والصور الشعرية التي يختارها لبحثه هذا، لكن بحثه وتحليله لا يخلوان من بعض التحليلات والإحالات القسرية والرغبوية... كما سنبين لاحقاً. غير ان الجهد الأساسي يتسم بحرارة وصدقية عاليتين، تجعلان منه بحثاً نقدياً على قدر عال من الجدة والجدية واضافة نقدية لما قدمه نقاد الشعر العربي عموماً ونقاد تجربة درويش خصوصاً. في عنوان "في دلالات الرموز الشعرية وخصوصية لغة الشاعر: نماذج تطبيقية"، يرصد الباحث مجموعة من الحقول، في كل حقل عدد من المفردات، ويتتبع الدلالات المتعددة لكل مفردة، محاولاً ابراز التطور الذي طرأ عليها. ففي الحقل الأول هناك الطيور التي تضم العصافير والسنونو والدوري أليس هذا نوعاً من العصافير كان يمكن ادراجه في حقلها؟ والحمام والهدهد والغراب والنسور وغيرها، وحقل الحيوانات ومنها الذئاب والثعالب والجمال والغزلان والأيائل والخيل الحصان والفرس والماعز وسواها، وحقل الحشرات كالفراش والذباب والنمل... الخ. تحتل صورة العصافير ودلالاتها الحيز الأول والأكبر في بحث أبو خضرة، فهو يرى انها ترد في معظم دواوين الشاعر على نحو متفاوت، ويلحظ انها "مركزية في قاموس الشاعر في مراحله الشعرية الأولى خصوصاً، وانها محورية في توليد الدلالات اللغوية في قصائد ديوانين، هما: "عصافير بلا أجنحة" و"العصافير تموت في الجليل"، لكنها... استعملت في مراحله الشعرية المتأخرة استعمالاً محدوداً يعكس خصوصية لغته الشعرية". وتسأل الباحث عن ماهية الخصوصية التي يعكسها "الاستعمال المحدود"... وهل كان الاستعمال غير المحدود يعني اللا - خصوصية؟ لعل الباحث اراد القول ان تطور تجربة الشاعر وتوسع قاموسه قد أفضيا الى تراجع هذه المفردة. في رصده دلالات العصافير في شعر درويش، يبدأ الباحث من المكونات المعجمية المتمثلة في: الطيران، التغريد، والألوان، ثم المعاني التي توحي بها كالحب والفرح، كما هو الحال في قصيدة مبكرة من ديوان "عصافير بلا أجنحة" يقول "أود لو طرت... عصفور أنا غرد/ زوادتي الحب والألوان والفرح"... ثم يأخذ في التنقل من دلالة الى أخرى، متنبهاً الى ما يجمع السمات المعجمية والإيحائية مع الشروط الموضوعية للشاعر في الوطن وفي المنفى، في السجن وفي الحرية، في وصف ذاته وفي تصوير مأساة شعبه... الخ. فالمفردة قد تشير الى اللاجئ المبعد عن وطنه "للعصافير التي ضاعت وراء أفق بلادي"، وقد تؤشر على المحبوبة "... وأغمض العينين يا عصفورة بنشوة لكي أراك..."، وقد تدل على الطير عموماً في قدرته على حمل رسالة الشاعر الى أمه "أقول للعصفور ان صادفتها يا طير/ لا تنسني وقل: بخير". وتعكس "العصافير المهاجرة الحزينة" و"مذ طارت عصافير الربيع/ تجرد الشجر..." صورة الأهل المهجرين كما يراها المقيم على أرضه من زاوية الرؤية المشحونة بالحالة النفسية والشعورية. كما تستعمل المفردة للدلالة على الشهداء "ورمت في آلة التصوير عشرين حديقة/ وعصافير الجليل"، وتحديداً شهداء كفر قاسم "تعالي ننتمي للمجزرة/ سقطت كالورق الزائد أسراب العصافير/ بآبار الزمن..."، وللدلالة على المسافر بحثاً عن حريته النضالية والإبداعية بعد خروجه من الأرض المحتلة، في صورة "عصفور يجفف ريشه الدامي" من ديوانه: أحبك أو لا أحبك. وقد يستعمل العصافير للدلالة على الشعراء في شبكة جديدة من الاقترانات اللغوية التي يميل الشاعر فيها - وهو خارج الأرض المحتلة - الى استعمال الحبيبة للدلالة على الأرض الفلسطينية "تركت الحبيبة.../ تعير العصافير ألوانها...". وفي تطور لافت تبدأ المفردة تنهل من مصادر جديدة، فتشتبك صورة الواقع مع مدلولات الأسطورة، ولا يعود التحليل اللغوي كافياً لفهمها، ولا بد من البحث عن مرجع يسوغ الانزياحات الدلالية الماثلة، كما في قصيدة "تلك صورتها وهذا انتحار العاشق"، حيث يعتقد الباحث بوقوف اسطورة أوزوريس في خلفية أية قراءة معمقة للقصيدة... وبالأسطورة نفسها يمكن تأويل مفردات قصيدة "الأرض" من ديوان "أعراس". أما في "مديح الظل العالي" فالعصفور رمز للتشاؤم وعلامة على الموت والخراب لتعميق مأساة حصار بيروت بأسلوب تهكمي ساخر. لكنه يعود في "أحد عشر كوكباً" ليرى في نوم عصفورين تصويراً لالتقاء المحبين... يأتي هذا الالتقاط للصور والمفردات ضمن تحليل ينم عن ذائقة تسعى وتجتهد في اجتراح قراءة مبسطة بلا تعقيد أو فلسفة، لكنه يبقى مجرد اجتراح يفتح باب التأويلات ولا يغلقه خلفه. ومع ذلك فثمة تأويل يتكرر في غير موضع من التحليل، إذ يحاول الباحث تأويل كل امرأة على انها الأرض حيناً، والوطن حيناً آخر، والبلاد حيناً ثالثاً، من دون قرائن أو علامات مؤكدة، فالمعروف ان درويش قد يصور امرأة حقيقية من لحم ودم ومشاعر، فأين هي هذه المرأة إذا أحلنا كل نساء الشاعر الى رموز؟! وهل يجوز الادعاء والجزم بأن ريتا هي دائماً الأرض أو الوطن؟ ولماذا علينا ان نفسر غياب أي محبوبة - امرأة في شعر درويش على انه غياب البلاد كما يفعل الباحث في تعليله هذا المقطع "كلامك، كالسنونو، طار من بيتي..." قائلاً انه للتعبير عن الحزن الذي سببه غياب المحبوبة - البلاد؟! في الباب الثاني من الفصل الثاني، يتناول الباحث ظاهرتين من الظواهر الدلالية في التشكيل الشعري هما: الألوان والأعداد، فيرصد، بالأسلوب نفسه، مجموعة الألوان الأسود والرمادي والأسمر، الأبيض، الأحمر، الأخضر، الأصفر، والأزرق ودلالاتها الإيحائية والنفسية والدينية والاجتماعية... حيث ان ثراء اللون دلالياً يسهم في تشكيل لغة شعرية موحية. وعلى النحو ذاته يرصد دلالات الأعداد الصفر، الخمسة، السبعة، العشرة، الثلاثة عشر، الأربعون، الألف، والمليون... الخ. أما الفصل الثالث، فهو بحث في تطور بعض ظواهر الأسلوب الشعري للشاعر، وفيه بحث في اللغة الشعبية التي تتخذ - بأشكالها المختلفة - مساحة محدودة من تجربة الشاعر، وخصوصاً في المراحل الشعرية الأولى، حين كان الشاعر حريصاً على بقاء التواصل الفني مع المتلقي... ولتحقيق الوعي الجماهيري... ولتقريب قصائده من الوجدان الشعبي... عبر تركيب شعري ينقل الكثافة الدلالية عمقاً وشمولية، بقدر ما يوفر للعمل الإبداعي شعرية على المستوى الفكري والجمالي والتواصلي". وفيه كذلك بحث في ظاهرة الحذف الإيجازي وبعض مظاهره في شعر درويش، وبحث ثالث في بعض اشارات التناص وملامح لغة الشاعر.