من التقاليد التي تفاخر بها أجهزة الاستخبارات العالمية هو تقديمها (الحقيقة المجردة للسلطة)، بمعنى عدم المواربة في عرض الحقائق وإن كانت مُرّة، وعلى الرغم من ذلك، فقد سجل التاريخ الحديث حالات نادرة طوعت فيها التحليلات الاستخبارية لخدمة خط فكر معين، بغض النظر عن مدى تناقضه مع الحقائق، وهو ما يعرف اصطلاحاً ب»تسييس الاستخبارات» حيث يعمد فيه بعض الساسة إلى الضغط لانتقاء تحليلات استخبارية خدمةً لقرار يُرغب في اتخاذه. ورغم فظاعة هذه الممارسات التي تنال ليس فقط من سمعة ومصداقية أجهزة الاستخبارات حول العالم بل أيضا تتنافى مع أصول وأخلاقيات المهنة، فانه إبان غزو قوات التحالف الدولية للعراق في 2003، مارست إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش ضغوطًا غير العادية على وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي آي أيه» لدعم خطط الحرب على العراق، بحجة علاقاته المزعومة بتنظيم القاعدة وبرنامج أسلحة الدمار الشامل، وهو ما تبين لاحقاً عدم صحته واعتبر ذلك فشلا استخبارياً ذريعاً. كانت أسباب اللجوء الى تسييس التحليلات الاستخبارية آنذاك، على الأقل، في الولاياتالمتحدةالأمريكية والمملكة المتحدة، هو الحاجة لتبرير سياستهم الخارجية لإزالة صدام حسين من خلال عمل عسكري، وإيضاح أن ما يتخذ من قرارات تستند إلى معلومات استخبارية وفرها المختصون في أجهزة استخبارات البلدين، ليبدو قرار الغزو ليس سياسياً محضا بل مبنيًا على تقارير استخبارية. وإمعانا في هذا التوجه وأمام الرأي العام العالمي، اصطحب وزير الخارجية الأمريكي آنذاك كولن باول رئيس وكالة الاستخبارات المركزية جورج تينيت ليجلس خلفه مباشرة أثناء إلقائه خطابه في مجلس الأمن لعرض الأدلة الاستخبارية التي بُني عليها قرار شن الحرب، وهو ما أصبح ظاهرة سياسية لصناع السياسات الراغبين في المضي قدما لتحقيق قرار قد حدد مسبقاً، بالسعي للأخذ بالمعلومات الاستخبارية التي تؤيد المضي في ذلك التوجه، وتجنب ما قد يعارضه. في الأزمة التي نعيشها الآن بين أمريكاوالصين، والناجمة عن جائحة فيروس كوفيد-19 المستجد، والاتهامات المتبادلة بينهما عن مصدره وكيفية انتشاره، وبعد تكامل تقييمات أجهزة الاستخبارات الأمريكية المتعددة بعدم وجود دليل مباشر على تخليق فيروس كورونا في مختبرات ووهان الصينية، إلا أنه لايزال هناك إصرار من الإدارة الأمريكية على وجود أدلة مهمة بخروجه من ذلك المختبر، وفي المقابل، تنفي الصين وتتهم الجيش الأمريكي بتخليق فيروس كورونا ونشره في المدينة نفسها، رغم عدم تقديم أي منهما دليلا يؤكد مزاعمه. أمام تأزم الموقف بين القوتين الدوليتين، فقد يشهد العالم مرة أخرى عملية تسييس للتقييمات الاستخبارية من قبل أحد طرفي النزاع، وذلك لإيجاد ما يقنع العالم بعدالة موقفه وإجراءاته العقابية التي سيتخذها ضد الطرف الآخر، والتي قد تأتي في نهاية المطاف ضمن إطار «الحرب التجارية» القائمة والمحتدمة بين البلدين.