يتكئ بعض المتقدمين من الفلاسفة وعلماء الكلام ومن ينحو نحوهم على رأيٍ للعقاد في تقليلهم من شأن الرواية وأهلها، بينما يُنْظَرُ لهم من أهلِها وخاصتها على أنهم عجِزوا عن كتابتها فذهبوا باتجاه استنقاصها، شأنهم في ذلك شأن عباس محمود العقاد نفسه، الذي لم يحفل إرثه الأدبي العظيم إلا بقصة وحيدة هي «سارة»، والتي ذهب كثير من النقاد إلى أنها سيرة ذاتية، لا ترقى بأن تكون رواية، إذ إن بطلها «همام» كان هو العقاد نفسه بشحمه ولحمه، ولم يُنكر هو ذلك بل تبسم من قولهم، مما جعل «نجيب محفوظ» حينها يصمه بالعجز على استحياء وبصوت خافت خشية أن يبطش به، وكان لا يجرؤ أحد على مجابهته وقد شاهدوا أو حتى سمعوا بمعاركه الطاحنة مع أمير الشعراء أحمد شوقي على قوته ومكانته. هؤلاء المقللون، يستقوون بمقولة العقاد في استنقاصه من القصة حين شبهها «بالحديد مقابل الذهب» وكان يعني بذلك إعلاء شأن الشعر الذي لا شك ولا ريب يعد ديوان العرب، وكانت الرواية العربية ما تزال في بدايتها، ولم تصل بعد للمكانة التي تحتلها اليوم، وفي كل الأحوال عُدت في نظر كثير من المنصفين، مقارنة ظالمة وإن كانت تزكية بليغة لذائقته الشعرية لا يحسنها غيره. وبعيداً عما قيل من أنه ذكرَ ذلك تمهيداً لنيله إمارة الشعر بعد وفاة أحمد شوقي، عندما داهن الشعراء بمقولته تلك التي طرز بها مقاله الشهير المنشور على صفحات مجلة الرسالة في سبتمبر من العام 1945م، أي قبل اجتماع حديقة الأزبكية، وكان يروم تولِيَتهُ كما يقال، وإن لم ينجح في ذلك رغم مبايعة جمعٍ من الأدباء والشعراء له، منهم طه حسين، عندما طالب بوضع لواء الشعر بيده في مقولته الشهيرة، وإن تنكر لمقصده منها ووضعها في غير موضعها بعد وفاة العقاد، منكراً أنها تعد مبايعة وهو يتساءل ساخراً «كيف يكون أميراً للشعراء من ليس بشاعر؟!» ومع أن العقاد لم يحد عن مقولته تلك المجحفة في القصة وتناولها في مجالسه كثيراً ودونها في كتابه الجميل «في بيتي» الصادر في العام 1955م، إلا أن بعضهم يظنه تراجع ضمنياً عن كل مقولاته السابقة قبل وفاته، وقد نشر في عام 1963م كتابه «ألوان من القصة القصيرة في الأدب الأمريكي» الذي أعلى فيه من شأن القصة وأفرد عدة صفحات للحديث عنها والتعريف بها، وأقنع من يطالعه بأهميتها وقيمتها وتأثيرها، وقد عرضَ بثلاثة من مبدعي الأدب الأمريكي المعاصرين له، وهم «ويليام فوكنر» و«جون ستاينبيك» و«أرنست هيمنجواي» وذكر شيئاً من قصصهم الإبداعية مطرياً أسلوبهم القصصي ومفاجآتهم المدهشة التي خلقت جمال نصوصهم. وترجمَ في مؤلفه أيضاً لعدد من رواد القصة الأمريكية الأقدمين بتوسع كبير أمثال: «واشنطن ارفنج» و«إدجار آلن بو» و«مارك توين»، وتناول عددا من نصوصهم، قام بنقلها إلى العربية بأسلوبه البديع. ولو أنه كان على قناعة بأنهم أي الروائيين ثرثارين كما يصفهم بعض الجهلاء في عصرنا الراهن، لما ترك لنا هذا الأثر العظيم الذي خلد براعتهم في كتابة القصة، وهو يدبجها بقلمه الخلاق، فيهدينا قصصاً رائعة، تضاهي تركة المنفلوطي وباقي المترجمين العمالقة في أدبنا العربي، وأظنه لو قدر له أن يعيش بعد كتابه ذلك فترة أطول، لأوغل في كتابة القصة والرواية وقد تذوق طعمها وشعر بلذتها وآمن بأهميتها. وحتى لا يأخذنا العقاد بعيداً كما هي عادته، ويبحر بنا في المياه التي يعشقها ويحسن الغوص فيها، علينا الوقوف للحظة إنصافاً للرواية، وإنقاذاً لها من مثل هذه المقولات التي يُساء فهمها، وتجتزأ من سياقها التاريخي، ولا يعتد بها في ميزان العدالة التي تقتضي أن يكون الحكم فرعا عن التصور، فإن كان العقاد لا يُشق له غبار كأديب ومفكر أرخ للأدب العربي وهو يدون عبقرياته وبقية كتبه الخالدة، إلا أنه لا يعتد بقوله في الرواية، طالما لم يكتبها ولم يقرأها متذوقاً وإنما ناقداً ومقللاً وقد شغفه الشعر حباً. ذلك بالطبع قبل مجموعته القصصية التي أعقبت آراءه المتداولة وسبقت موته بعام، ولم يروَ عنه التقليل من الرواية إطلاقاً بعد نشرها. ولعلنا ونحن نسعى لتبيان أهمية الرواية والقصة، نستخدم مقولة للعقاد أيضاً حين ذكر لتبرير التهافت على الرواية بأن «الوصول للذة الرواية أسهل وأقرب من تحصيل لذة الشعر» وكأنه يقول لنا إن الشعر للخاصة، والرواية للعامة، ما يدعونا للتساؤل، كيف لنا إيصال رسائلنا من خلال جنس أدبي لا يتلقاه سوى النخب المثقفة والمعنيين بهذه النوع من الأدب، ونغفل باباً يدلف منه أغلب شرائح المجتمع، يُمكِننا بواسطته التأثير في سلوكياتهم وتأطيرهم على أفكار معينة، يستحيل حثهم عليها بالتلقين الشعري دون قناعة تكفلها القصة، الأمر الذي يفسر لنا استعانة القرآن الكريم كثيراً بالقصة، قال تعالى (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ). ولقد أتى بها على هيئة تشبه الرواية كما في قصة سيدنا يوسف عليه السلام أو القصص القصيرة التي تعدد ورودها في النص القرآني، فإن كانت القصة بالوصف الذي يذكرونه عنها، فما حاجة القرآن بها وهو الذي يفوق الشعر جمالاً وفصاحة وإيجازاً وبياناً ويسعه تبليغ أحكامه وإيصال رسالته دونها؟! لولا أن هناك مغزىً عظيماً خلق قيمتها وجعل الكتب السماوية وكتب السير والمدونات الإنسانية على اختلافها وعلى مدار التاريخ لا تخلو منها، بل تزدحم بها، ذلك المغزى الذي لا أظنه سوى نقل الخبرات الحياتية بطريقة غير مباشرة وتوفير الوقت والجهد على الإنسان بإعطائه خلاصة تجارب من سبقوه، وضعت في هذا القالب الجميل والمحبب للنفس حتى يسهل التأثر بها، فالإنسان وقد جبل على التعلم بالتجربة والبرهان والإغراق في التفصيلات الدقيقة التي تجعله يعايش التجربة كبطل من أبطالها؛ لن يقتنع بأقل من ذلك، ما يوقفنا على القيمة الحقيقية للرواية والقصة التي جعلت القرآن الكريم على إعجاز بيانه معنيا بها الرواية التي أعجزت العقاد عن نظمها. ** **