تعيش إيطاليا هذه الأيام على وقع مجابهة انتشار وباء كورونا. وبالرغم من الظروف الطارئة التي تمرّ بها البلاد من جراء تفشي الفيروس، والأعداد الهائلة من المصابين والموتى، فإننا نرى مدًّا تضامنيًّا إنسانيًّا هائلاً.. وكأن الإيطاليين في الوقت الراهن استلهموا مقولة المفكر الراحل أنطونيو غرامشي التي تقول: «تشاؤم العقل، تفاؤل الإرادة»؛ فباتوا يبدعون في تجاوز هذه المحنة بإقامة العديد من الفعاليات الاجتماعية والأنشطة الثقافية، بمبادرات فردية أو بإسهام من المؤسسات الخاصة والعامة؛ بغرض مساندة المواطنين في محاربة فيروس كورونا بعدما تم فرض الحجر الإلزامي في المنازل. لقد أبدع الفنانون والمواطنون، كلٌّ من جانبه، في القيام بالعديد من الأنشطة في منازلهم، تمثلت في تحفيز الناس، وشد أزرهم، والتهوين عليهم للمكوث في منازلهم، والتخفيف عنهم من حالات الضجر والملل. وقد شارك الأطفال من جانبهم في هذه الأنشطة، من خلال نشر صور ورسوم تعبِّر عن إرادة التشبث بالحياة، وترويج تعابير تبث الطمأنينة، كعبارة (andrà tutto bene) «سيكون كل شيء على ما يرام». هذه المقولة البسيطة التي تجسد مشاعر الأمل، وتوحد جميع الإيطاليين، من الشمال إلى الجنوب، على مدار هذه الأيام العسيرة، هي رجاء يطفح بالأمل، وقد كان لها صدى حسنًا في إيطاليا، وزادت من رفع معنويات المواطنين؛ وهو ما بثّ نوعًا من الطاقة الإيجابية بين الناس في أرجاء البلاد كافة. جاءت الفكرة بعدما بادر صبي، لا يزيد عمره عن خمس سنوات، برسم صورة قوس قزح، وكتب عليها هذا الشعار المفعم بالأمل والحياة في إيحاء إلى تلك القصة التي تروي أن النبي نوح (ع) قد لاح له قوس قزح في السماء إيذانًا بانتهاء الطوفان. وأخبرتنا السيدة مونيكا بأنها تشعر بالفخر لكونها إيطالية أمام ما تراه بأُم عينيها من مد تضامني هائل، يبديه الناس بأشكال متنوعة. وتضيف إيزابيلا بأن المحن مهما تقسو فإن الأمل سينتصر؛ فحينما تنظر إلى نوافذ البيوت تجدها مزدانة بهذه الصورة والمقولة التي باتت شعارًا ضد شراسة هذا الفيروس، بما يجعل الناظر يتذكر أن إيطاليا ستتخطى الصعاب، وستجتاز هذا الامتحان الصعب. ضمن هذا السياق بث طلاب قسم اللغة العربية في «جامعة سان دومينيكو» الإيطالية في مدينة روما العديد من الفيديوهات، تتضمن رسائل تضامن وومضات طمأنة موجهة للإيطاليين وللعالم، مثل مبادرة «طمني عليك» باللهجة التونسية إعرابًا عن التضامن مع المتضررين كافة في شتى أنحاء العالم. من جانب آخر، قامت البعثة الدبلوماسية السعودية بإيطاليا برفع لافتة خارج مبنى السفارة، تحمل شعار «كل شيء ممكن» تضامنًا مع الشعب الإيطالي؛ إذ زادت هذه الأزمة الصحية التي تمرّ بها إيطاليا من تعزيز أواصر التلاحم والتآزر بين أبناء البلد والجالية العربية. بدا ذلك جليًّا من خلال رفع الراية الوطنية الإيطالية على الشرفات وفوق المنازل، ونشر صور لأطفال من أصول عربية من مواليد إيطاليا مكتوب عليها «كلنا إيطاليون»، وما شابه ذلك من العبارات التي تدل على المحبة والتضامن مع الشعب الإيطالي. لقد اعتاد الشعب الإيطالي في الأيام العادية الإقبال على مظاهر الزهو والمرح، ولم يجد في هذه الظروف الصعبة للترويح عن النفس وتمضية الوقت والخروج من وطأة الرتابة سوى إطلاق مكبرات الصوت بالغناء كل مساء من الشرفات، وقد ساد ذلك في أغلب المدن الإيطالية وبلداتها. وتتنوع الأغاني التي تبث من الشرفات من أغاني الأوبيرا بصوت بافاروتي، إلى الأهازيج الشعبية بصوت دومينكو مدونينو، ولاسيما أغنيته المعروفة «فولاري» (أنا أطير)، أو رائعة المغني توتو كوتونيو «لاشاتيمي كنتاري.. سونو إيطاليانو» (دعوني أغني.. أنا إيطالي). وهو إعراب ضمني من الناس عن التزام الحجر الصحي، والمكوث في المنازل تطبيقًا للقرار الحكومي. ضمن هذا السياق صرحت لنا ماريا تيريزا أثناء استجوابي إياها عن بُعد وهي في الشرفة المقابلة لمحل سكني، بشأن سهرها هي وزوجها ماركو على وصلات الموسيقى اليومية التي تبثها قبيل الغروب، وتُختم بالنشيد الوطني، بأن غرضها من هذه المبادرة الترويح النفسي على الناس لإخراجهم من أجواء الحصر والعزلة والقلق. وهي تقوم مع زوجها بإدخال تحويرات يومية على البرنامج حتى لا يصاب الناس بالملل، على غرار اقتراحهما تكريم الفائزين بأجمل شرفة مزدانة بالورود. بدا التضامن الاجتماعي والإنساني، رغم التباعد بين الناس، من أجل أشكال التعاضد في هذه الفترة؛ إذ ترى في بعض الأحياء الشعبية، في مدن نابولي وكالابريا وباليرمو، السلال تتأرجح من أعلى العمارات لحث المارة على التبرع للفقراء والمحتاجين بالمواد الغذائية. وقد يصادفك في الطريق أن تشاهد أيضًا بعض المتطوعين يمرون بسلال وصناديق تحوي مواد غذائية، ومساعدات يقدمونها إلى طاعنين في السن معزولين، أو محتاجين فقراء. لقد زادت هذه الأزمة الصحية التي تعيشها إيطاليا من التقارب بين الأهالي والأجانب المقيمين على أرضهم، وهو ما تجسد في العديد من مبادرات التضامن من خلال تقديم المساعدات للجميع دون استثناء؛ إذ تلقت العديد من الأسر المهاجرة إعانات ومساعدات، سواء من المؤسسات الخيرية، أو من المواطنين الإيطاليين. يقول السيد بلقاسم الجندوبي، وهو مواطن إيطالي من أصل تونسي: لقد توحدنا جميعًا لمقاومة هذا الوباء، ولم يعد للفوارق القومية أو اللغوية من معنى. فقد تناولت صحيفة الحي الذي نقطن فيه خبر تحويل محل عمل السيد فرانكو وزوجته ماتيلدا من محل لخياطة الملابس إلى محل لصنع الكمامات بغرض تقديمها إلى المواطنين المعوزين والمحتاجين. من جانب آخر، وضمن هذه الموجة من المد التضامني، لم تبخل المتاحف والمكتبات والغاليرهات الإيطالية بتقديم خدمات مجانية أونلاين، وذلك بالكشف عن كنوزها الفنية والأثرية للجميع بهدف الترفيه على الناس أثناء الحجر. وفي مكالمة هاتفية لنا مع مسؤولة مبادرة البث أونلاين السيدة سيلفيا بوليتي في المتحف الوطني بروما أخبرتنا بأن الهدف من وراء ذلك هو إيصال الثقافة إلى بيوت الناس، عبر بث العديد من الأعمال والأنشطة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وقنوات اليوتيوب. وقد بادر المتحف بتقديم زيارات افتراضية لمشاهدة الأعمال الفنية، وبث فيديوهات قصيرة حول الفنانين والمعروضات. صحيح سيخلف هذا الفيروس ضحايا كثيرين، وسيحد من أنشطة الناس بشكل قاهر، ولكن رغم المصاعب التي تعيشها إيطاليا فإن أملاً كبيرًا لدى الناس في قدرة المختبرات الإيطالية على تحقيق إنجازات علمية، وعلى تصنيع لقاح مناسب ضد هذا الفيروس الفتاك خلال الأشهر القليلة القادمة.