قد لا أتجاوز الحقيقة إذا أطلقت على جائحة فيروس كورونا التي اجتاحت العالم من أقصاه إلى أقصاه (جامعة كورونا)؛ لأنها بكل بساطة جمعت العالم بمختلف شرائحه ومستوياته على صعيد واحد، وأثبتت بالواقع والحقائق الملموسة تلك العبارة التي طالما ترددت على مسامعنا مرارًا وتكرارًا منذ أن كنا على مقاعد الدراسة الجامعية، هي أن العالم يعيش في قرية كونية واحدة، لا تفصل بينه فواصل أو حدود، وأنه لا أحد يعيش معزولاً، بل الكل أصبح يؤثر ويتأثر. ومن جامعة كورونا المفتوحة على العالم، وما أتاحته لنا من هدنة عالمية، ووقفة مع النفس للتفكر والتأمل، وانطلاقًا من مقولة (رُبّ ضارة نافعة)، فقد علّمتنا جامعة كورونا، واسترعت انتباهنا للعديد من الدروس والعِبر والوقفات، منها: أن جامعة كورونا أكدت للكل أن للرعب ألوانًا أخرى غير ذلك اللون الأحمر الذي تعودنا على مرآه صباح مساء، ومن خلال وسائل الإعلام المختلفة، وأقصد رعب المجازر والدمار والخراب وسفك الدماء وإهدار قيمة الإنسان.. رعبًا من نوع آخر، لا يُسمع ولا يُرى بالعين المجردة، تخطى الحدود متحديًا قوة الدول، وتغلغل في مفاصل حياتنا اليومية كافة، وشل حركة الكون، وعطل دورة الاقتصاد العالمي، وتوقفت الرحلات الجوية وحركة النقل والمدارس والجامعات والشركات والمصانع والمؤسسات، في حالة نادرة لم يشهد العالم مثلها في العصر الحديث معلنًا ميلاد مرحلة جديدة مختلفة في حياة البشرية. جامعة كورونا علمتنا أن هناك فرقًا كبيرًا وبونًا شاسعًا بين مَن يهتم بحياة الإنسان، ويُعلي من شأنه كما رفعه قبل ذلك خالق الأكوان، ويقدر دوره في بناء الأوطان، ويدرك تمامًا مسؤولياته وواجباته نحو مجتمعه وأمته، ومَن يحط من قدر الإنسان، ويقدم عليه مصالحه المادية الزائفة، ويتنصل مما يرفعه، ويتشدق به دومًا من شعارات ومبادئ وقيم ومثل لحماية حقوق الإنسان؛ لتأتي لحظة الاختبار الحاسمة بحلول هذه الجائحة وصدمتها القاسية؛ فتسقط معها قيادات ودول عظمى. وفي المقابل صمدت دول أخرى بكل حكمة واقتدار وثقة بربها، ونهجها الواضح، ومبادئها وقيمها السامية الأصيلة؛ واستحقت بذلك أن تكون النموذج الأمثل لقيادة البشرية. جامعة كورونا أعادت التوازن للحياة، وفي شبه هدنة؛ فأوقفت الكثير من التوترات السياسية والفوارق العرقية والحقد الطائفي والتعصب المذهبي، وألغت نعرة الغرور والغطرسة والشعور بالقوة والتفوق؛ لتنصرف الجهود والاهتمامات كافة للقضاء على هذا الوباء، ووضع الخطط والحلول للتخفيف من آثاره السلبية على استمرار حركة الحياة. جامعة كورونا علمتنا الصبر والثبات وضرورة حمد الله وشكره على نعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، وجعلتنا نعود إلى الله بقلوب طاهرة نقية، ونمحص أنفسنا، ونعيد حساباتنا، ونتيقن تمامًا أن في طيات المحن منحًا، تجعلنا نؤطر حياتنا بشكل جديد، ونعود للمسار الصحيح في علاقتنا مع الخالق ومع الآخرين. جامعة كورونا جعلتنا نقلب أوراقنا الاقتصادية، ونعود إلى مراجعة أصول علم الاقتصاد، وإعادة تحديد الأولويات، وحُسن إدارة الموارد، وأهمية الادخار والتخفيف من الاستهلاك غير المبرر، والاستثمار في العشرات من المجالات الجديدة ذات الأثر والنفع على الفرد والمجتمع.. ولتؤكد تلك المقولة أنه من رحم الأزمات تولد الفرص، ولكن تلك الفرص التي تلبي احتياجات الناس ومتطلباتهم للحياة الكريمة، لا أن تكون سببًا في تعذيبهم وشقائهم ودمارهم. جامعة كورونا رفعت من مستوى الوعي الصحي، وعلمتنا أهمية أخذ الحيطة والحذر، والعناية بأسباب الوقاية، وأعادتنا للنظر مجددًا إلى ما أقرته شريعتنا الإسلامية الغراء من أهمية النظافة، ومكانتها في حياة المسلم في أحواله ونشاطاته كافة، وطوال حياته، حتى وهو يغادر الحياة. جامعة كورونا فتحت لنا آفاقًا جديدة، ونوافذ مشرعة للاهتمام بالعديد من الجوانب، منها الاهتمام بالعلم والعلماء والباحثين، ودورهم في حياتنا، وتفعيل هذا الجانب في جامعاتنا، ودعمه بشكل أكبر، وإقامة المزيد من المراكز العلمية المتخصصة. كما علمتنا جامعة كورونا أن التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي هو الخيار القادم، ولغة المستقبل التي يجب أن تكون ضمن أولى الأولويات. جامعة كورونا قادتنا لاكتشاف قدراتنا وإمكانياتنا وذخيرتنا المهمة من سواعد الوطن، وسرعة تجاوبنا مع المتغيرات، وتكامل جهودنا على المستويات كافة في منظومة فريدة من المبادرات، والتزام الشعب، والتجاوب التام مع كل الإجراءات والتنظيمات والاحترازات التي تهدف أولاً وأخيرًا إلى سلامة الإنسان أغلى ما في الوجود على هذا الكوكب. والدروس والمنافع من هذه الأزمة عصية على التعداد والحصر.. ولا أقول في الختام، وكما ردد البعض: شكرًا كورونا، بل شكرًا وحمدًا لله على أقداره، وألطافه، ووافر عطائه، ورحمته، وسعة فضله بأن منحنا وأكرمنا في هذه البلاد بقيادة كريمة حكيمة قريبة من الناس، أثبتت بحسن إدارتها وإرادتها الحازمة لهذه الأزمة أنها حريصة كل الحرص على سلامة الناس، وعلى أمنهم ورفاهيتهم، حتى في أحلك الظروف.. وأثبتت بكل جدارة أنها تفوَّقت على الدول المتقدمة بحُسن تخطيطها وتدبيرها واحترازاتها المبكرة.. ولا ننسى أبطال هذه الملحمة من رجال وأبناء الوطن الذين يثبتون في كل يوم أنهم على قدر كبير من المسؤولية والإخلاص والوفاء. فحفظ الله قائدنا ووالدنا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين وحكومته الرشيدة، وحفظ الله بلادنا وشعبنا الأبي وأشقاءنا وأصدقاءنا العرب والمسلمين والأمة جمعاء من كل شر ومكروه، إنه سميع مجيب. ** **