واصل موسم الثلج يضرب أصقاع كندا وعاصمتها أوتاوا، لفترة أطول مما اعتاده السنة التي سبقتها. وكأن بياض الجليد وكثبان ثلوج أوتاوا كانت تؤجل الرحيل تنتظر قادماً من الصهد وكثبان الرمال الحمر لتحضنه في جوفها البارد. كنت قلقاً - ربما ببعض معرفتي المتواضعة حول مسار المرض- لكنني على الدوام رجوت الله تأجيل اليوم الذي سيغيب فيه صديقي للأبد. أهاتفه أو أجلس بقربه وأسرد قصص من عمروا سنيناً طوالاً بعدما ابتلوا بهذا المرض، فيبتسم ويجيبني؛ الله كريم. - الله كريم، نريد عملاً يصف ملحمتك يا أبا بدر مع هذا اللعين المسمى سرطان. فيكرر العبارة: «بو عبدالرحمن الله كريم». - دعك من هم الجهراء والصحراء، أستمتع بهذا البياض يحيط منازلنا في أوتاوا وأنصف جماله ... - أنت ما تعرف (قديش) جهراء الكويت في وجداني. إنه وطني و»وطني هو إعاقتي الأبدية». الأمر ليس سهلاً تبديل روحك/ وطنك كما تبدل ملابسك. تصدق، اشتقت للديرة ولو كانت (سفوف) الرمال وصهد يوليو! ليس الكويت فقط، بل (من أدبه في عدم حصر الحديث بديرته) اشتقت لأصدقائي السعوديين، لليالي الرياض والشعر يهدر به نايف صقر أو الرشيدي أو الفليح ... - ليالي نقضيها في حوارات حول الأوطان والرواية والقراءة والقصص الشعبية ومصائر الأبناء. بحرٌ من الأحاديث والحكم والحكايات المشوِّقة تعلّمتها منه، ومحيط من الإخوة والود والتقدير تبادلناها. وقبل انتهاء بياض ثلج أوتاوا جاء الخبر الحزين؛ ناصر الظفيري يطلبكم الحل.. وفي درجة حرارة تزيد عن عشرين تحت الصفر، تجمّع محبوه من أقاصي المدينة، حملوا نعشه، واروا القلب الأبيض في القماش الأبيض في الثلج الأبيض. لم تكن أمنيته دفنه في البلاد البعيدة، لكن الأمر قضي، فقد لوّث البشر معاني الوطن بأوراق تُسمى الجنسية. حدوداً يعبرها حاملو تلك الأوراق وبعضهم يحمل الظلم والقسوة ويمنع عبورها من حملوا الوطن على أعناقهم لمجرد غياب تلك الوريقات. كثيرة هي القلوب المحبة التي كانت تلهث بالدعاء وطلب الرحمة والمغفرة لناصر الظفيري والدعاء نافذ إن شاء الله، بأمر من قال ادعوني أستجب لكم، حتى والحواجز تعيق حضور أهله، كما أعاقت جثمانه من الرحيل ليوارى في جهرائه الحبيبة. بعد عام من وداعك يا ناصر، ما زال محبوك يستشعرون رحيلك ويتذكرون أعمالك وابتساماتك وروحك الجميلة. لم يكن وداعك بكاءً بقدر ما كان سيلاً من الذكريات وصدحاً برسالتك التي خلدتها. لم تكن مجرد كاتب رواية أو حاكي قصة أو راوي شعر أو ناقد أدب، بل كنت ملهماً، محفزاً، وعرَّاباً لقضية إنسانية تُستلهم أقوالك وكتاباتك عنها. لم تكن لمن عرفوك مجرد عابر، بل روحاً محبة تنافس كثيرون في ذكر عطرها ومبسمها وكأن كل منهم يقول: هو أقرب لي، أنا أعرفه أكثر، لقد حكى لي أكثر ... أما أنا فأكتفي بالقول؛ أحببتك إنساناً وصديقاً، بعيداً عن كل القضايا، وأزعم أنك كنت أكرم مني في لطفك ومحبتك. رحمك الله يا ناصر. أحياناً أقول مر عام سريعاً عند تذكّرك وأحياناً أقول يا طولها الأيام عندما أقيس شوقي إليك ...