لفظ الربا جاء مطلقا في القرآن، ولم يقيد بكونه معاملة حاضرة أم آجلة. وربا القرض هو الربا الذي غلب ذكره في القرآن. فالتقيد بإطلاق المعنى هو الأولى ما لم يكن عند المؤمن برهان بتقييده. وهناك شواهد تشهد بإمكانية وقوع ربا القرض حاضراً، وعدم لزوم الأجل في القرض الربوي. فمن الشواهد التي تشهد بالالتزام بإطلاق المعنى: أنه في ربا البيع فرَّق الشارع الحكيم بين الحاضر والآجل، بينما سكت عن القرض، فما من تقييدٍ بحاضرٍ أو آجلٍ. كما لم يذكر في القرض ربا فضلٍ بتخصيصٍ لأموالٍ محدودةٍ، فهذا يدل على أن كل الأموال يجري فيها ربا القرض، وسواءً أكانت زيادةً حاضرةً أم زيادةً بالأجلٍ، فذهبت الحاجة الداعية للنص على ذلك. ومن الشواهد أن معنى الظلم والاستغلال موجودٌ في المعاملة الحاضرة إذا جاء السائل سائلاً لحفنة شعيرٍ يُطعم بها أهله في مجاعةٍ، فشرطت عليه مقابله عوضاً حاضراً ثوره الذي يحرث عليه مزرعته، وهو يساوي ألف حفنة شعيرٍ. ومنها أن الاستغلال يكون في حاجة السائل الآنية وليست المؤجلة. فوضع السائل الحاضر هو الكرب لا وضعه المستقبلي، وإلا لما أقرضه أحدٌ. فإنما يقترض المُقترض بأمل كشف الكربة في المستقبل. فإن تم استغلال حاجة السائل وتحصيلها حالاً، فبمَ تُخرج هذه المبادلة من ربا القرض؟ ومنها أن اشتراط الأجل في القرض لا دليل شرعي عليه. وبالمقابل، فإن تخصيص الزمن (النسيئة) في البيوع في قول ابن عباس: «إنما الربا في النسيئة»، شاهد على عدم تخصيصها في القرض لا العكس. ومن الشواهد، أن قرض الحاضر لا يمتنع مطلقاً بل كثيرةٌ هي حالاته. فالقرض عمليةٌ تبادليةٌ ماليةٌ، وتكون بتقديم سلعةٍ أو منفعةٍ ماليةٍ بسعرٍ أعلى من سعر سوقها، ليس من زيادة طلبٍ أو شح عرضٍ أو استغلال لحاجة فرصةٍ استثماريةٍ، بل لاستغلال حاجة كرب أخيك المسلم الاستهلاكية. كما يشهد لهذا النصوص الشرعية: فقد وردت آيات الكتاب في تحريم الربا كلها مطلقة الزمان، وجاءت السنة بتفصيل ربا البيوع خاصةً. وجاء في البيع إمكانية الربا في بيع الحاضر فمنعته في أصنافٍ ستةٍ. فعلى هذا فإطلاق ربا القرض المذكور في القرآن، يشهد له ما جاء في السنة في ربا البيوع على إمكانية وقوع ربا القرض دون أجلٍ. ومنها، أن وقوع ربا القرض في التبادل الحاضر مُتفقٌ جوهرياً مع معنى الآيات المحرمة للربا في أكل الأموال أضعافاً مضاعفةً، وما أتت به الشريعة من المقاصد في منع الظلم. ففي قوله تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}، لا يدل على لزوم الأجل، اللهم إن الآجل هو الغالب في القرض، كما أن الحاضر هو الغالب في البيع، فخرج مخرج الغالب. والشاهد العاشر: أن أصل اللغة يشهد لذلك، فلا يُفسد معنى القرض لغوياً، عدم وجود الأجل فيه. فأصل تعريف القرض لغةً هو القطع. فاشتق القرض منه؛ لأن فيه اقتطاعاً من المال. ويقال قرضَ الفأرُ الجبنةَ. فبما أن رأس المال يُسدد في القرض، فالاقتطاع إذن يكون في قيمة الزمن أو قيمة استغلال الحاجة، والتي تكون في الحاضر. وليس في أصل الحدِّ اللغوي ما يُلزم بالنسيئة، فلا زمنٌ متعلقٌ في أصل التعريف اللغوي للقرض. وكذلك الربا في اللغة هو الزيادة. فلا مانع لغوياً من شموله لزيادةٍ في قيمةٍ حاضرةٍ. فربا القرض الحاضر هو اقتطاع زيادة قيمة حاجة المقترض. إذن حدوث القرض الربوي في تبادلٍ حاضرٍ غير آجلٍ لا يتعارض مع النصوص الشرعية، بل إن دلالات النصوص تدل عليه. وكذلك لا يتعارض مع التعاريف اللغوية أو الشرعية الصحيحة، لا للقرض ولا للربا. فلا ينبغي أن يُحدد القرض بالأجل فقط إلا بمُحدِّدٍ شرعي أو عقلي منضبطٍ، والله أعلم.