الآثار الثابتة، سواء أكانت في صورة أبنية، أو بعض العناصر المعمارية كالأعمدة، أو منحوتات ومجسمات كبيرة وغيرها، ترتبط بموقعها ومحيطها، الذي نشأت فيه ارتباطاً عضوياً وتاريخياً، كما يرتبط بها وبوجودها الموقع الذي توجد فيه. ومن الطبيعي أن يظل الأثر في موضعه ولا يبرحه إلى موضع آخر، إلاَّ في حالات خاصة جداً، ذلك أن اقتلاعه من موقعه قد يفقده الكثير من قيمته، أو الكثير من بريقه، كما سيفقد الموقع ذاته بعضاً من قيمته الأثرية والتاريخية المرتبطة بوجود الأثر به. وأحياناً ما يحدث أن يتم نقل الأثر الثابت من موقعه، وبيئته، التي عاش فيها قروناً أو عشرات من السنوات، إلى موقع جديد عليه، يختلف في مناخه وطبيعته عن مكانه الأصلي، قد يكون مناسباً له أو غير مناسب، وقد يتأقلم الأثر فيه أو لا يتأقلم، إلاَّ أن الأمر له أبعاده الكثيرة التي تجعل من عملية اقتلاع الأثر من موقعه وغرسه في موقع آخر ليس بالأمر الهيَّن. من هذه الأبعاد ما يتعلق بالأثر نفسه، ومنها ما يتعلق بالموقع، ومنها ما يتعلق بالزائر للموقع، ومنها ما يتعلق بأسباب النقل وما يصاحبه من ظروف. ولعل سبب النقل، أو مبرره، هو المحكّ، وهو مربط الفرس أو مكمن القضية، هذا إذا ألجأتنا الأسباب إلى فصله من موضعه ونقله إلى موضع آخر. ولكن ما هي الأسباب والدوافع، المنطقية والمشروعة والمقبولة، لخلع أثر ما من موضعه ونقله إلى موضع آخر؟. دعونا نسلِّم في البداية أن الهدف الرئيس من التعامل مع الآثار أو مصادر التراث، إدارةً، وحفظاً، وصيانةً، وعرضاً، هو الحفاظ عليها، ومن ثم دراستها، واستجلاء ما تتمتع به من قيم مختلفة، تاريخيةً أو فنيةً، أو تقنيةً، أو جمالية، أو غيرها. ولنكن موضوعيين، إذا كانت حالة الأثر في موقعه المرتبط به تاريخياً، طبيعية وآمنة، فما الداعي لنقله من مكانه إلى مكان آخر، إن الأمر المقبول والمبرر المنطقي، أن يكون نقله حماية ووقاية له مما قد يتعرض له من أخطار بيئية، أو بشرية، قد تؤدي إلى تدميره، أو تشويهه، أو تلفه، أو تشكِّل تهديداً على حياته وعلى بقائه. فإذا ما تعرَّض لأي منها في موقعه، وكانت تشكِّل خطراً وتهديداً على بقائه، وجب التدخل السريع لإنقاذه، بنقله من هذا المكان إلى مكان أكثر أمناً وسلاماً له. وقد يكون الهدف من نقله مصلحة تاريخية وثقافية ذات أهمية عظمى، وخلاف ذلك فما الداعي لنقله؟!. وقد أشارت بعض المواثيق الدولية المعنية بالآثار والتراث إلى إشكالية فصل الآثر من موضعه ونقله إلى موضع آخر. ففي ميثاق فينسيا (البندقية)، و هو مجموعة من المبادئ التوجيهيّة وضعها مجموعة من المتخصّصين في الحفاظ المعماري بعد انعقاد مؤتمر دولي لهم في مدينة البندقيّة الإيطاليّة عام 1964، والتي توفِّر إطارًا دوليًا للحفاظ والترميم للمباني التاريخيّة، تنص المادة السابعة منه على أن: «المعلم الأثري جزءٌ لا يتجزأ من التاريخ الذي هو شاهد عليه، وجزء من الموقع الّذي حدث فيه. ولا يمكن السماح بنقله، كله أو جزء منه، إلّا إذا كانت حماية هذا المعلم تتطلّب ذلك، أو إذا كان النقل مبرَّراً ويحقّق مصلحة وطنيّة أو عالمية». وما ينطبق على الآثار الثابتة ينطبق على العناصر الفنية الأثرية المرتبطة بها، فالمادة الثامنة من نفس الميثاق تؤكد على أن: «عناصر النحت والرسم والديكور، التي هي جزء مكمل من المعلم الأثري، لا يمكن فصلها إلاّ إذا كانت تلك هي الطريقة الوحيدة لتأمين حمايتها والحفاظ عليها». وفي مبادئ «لاهور» لحفظ وترميم التراث المعماري الإسلامي، التي تم إقرارها في صورة بيان ختامي للندوة الدولية حول حفظ وترميم التراث المعماري الإسلامي، التي عقدت في «لاهور» بباكستان عام 1980م، أكَّد البيان في مادته الثامنة على: «عدم نقل الأثر أو جزء منه إلاَّ إذا كانت المحافظة على هذا الأثر تحتم نقله، أو إذا كان لذلك ما يبرره من مصالح تاريخية وثقافية ذات أهمية عظمى». ويتفق هذا معنى ومبنى مع ما جاء في ميثاق البندقية السابق. ولنا في نقل معابد «أبو سمبل»، في مصر، خير مثال وأكبر دليل على ذلك. فقد كانت هذه المعابد تحت تهديد ارتفاع مياه نهر النيل التي أوشكت على إغراقها تماماً، خلال عملية بناء السد العالي على نهر النيل في أسوانجنوب مصر. وكان من الضروري نقل المعابد لتجنب تعرضها للغرق خلال إنشاء بحيرة ناصر، وتشكيل خزان المياه الاصطناعي الضخم بعد بناء السد العالي، فسارعت اليونسكو بالدعوة إلى حملة دولية لإنقاذها عام 1960م، واستجابت لها أكثر من خمسين دولة، ساهمت جميعاً في إنقاذ هذا التراث العالمي الفريد. وبدأت عمليات الإنقاذ عام 1964م، حيث تم تقطيع الموقع كله إلى كتل كبيرة، وتم تفكيك المعابد وأعيد تركيبها في موقع جديد، وبعضها تم إنقاذها أو انتشاله من تحت مياه بحيرة ناصر، واستغرق العمل خمس سنوات تقريباً حيث تم الانتهاء من هذا المشروع الدولي الضخم عام 1968م. وتعدُّ عملية النقل هذه واحدة من أعظم الأعمال في الهندسة الأثرية في القرن العشرين. وهكذا كان الدافع والمبرر من نقل معابد «ابو سمبل»، هو الحفاظ عليها، وإن لم يكن هناك تهديدٌ عليها ما تمَّ نقلها. وقد يكون من المقبول نقل عنصر من عناصر التراث الثابت أو مجسَّم ما، من موضعه، إذا كان منفرداً نائياً في الصحراء بعيداً عن الجمهور، ويُخشى عليه من التعرض للتلف، أو التشويه، أو التدمير، أو السرقة، أو التعدي، فيكون نقله إلى المتحف، بغرض الحفاظ عليه وعرضه للجمهور. وبعيداً عن الحالات الخاصة بإنقاذ الأثر إذا ما تعرض لتهديد، أو حمايته من تهديد متوقع، فالحقيقة أن الأثر يكون مرتبطاً عضوياً بموقعه، ومحيطه، ويشكِّل جزءاً منه، وجزءاً من تاريخه، بل امتزج تاريخها معاً، وشكَّلا سوياً وحدة عضوية إذا فُصِل أحدهما عن الآخر يتعرضان معاً للضرر. فليس مقبولاً ولا مناسباً، لا للأثر ذاته ولا للموقع، فصله عن موقعه، أو بيئته ومحيطه، لأن ذلك يفقده الكثير من قيمته وبريقه، إن لم يكن يفقده أنفاسه التي يحيا عليها، تماماً كما تفقد الأشجار نضارتها، أو حياتها، إذا ما تم اقتلاعها من تربتها، أو كما تفقد الأسماك أنفاسها بخروجها من المياه. وهناك بُعدٌ ثالث يتعلق بالزائر، أو الدارس، الذي أَلِفَ وجود الأثر في مكانه وموضعه سنوات عديدة، وربما ارتبط وجدانياً بوجوده في هذا المكان، فصار جزءاً من وجدانه وذاكرته، فإذا تم خلعه من مكانه إلى مكان آخر فلسوف يترك فراغاً يصعب ملؤه، وربما يحدث شرخاً في وجدان الزائر لهذا المكان بافتقاده لوجود الأثر فيه. إن الزائر مثلاً للمتحف المصري، وقد تعوَّد على وجود قناع الملك توت عنخ آمون في موضعه ضمن الجناح الخاص بآثار هذا الملك، إذا فوجئ بغياب القناع الذي أَلِفَ وجوده، لسبب من الأسباب كالسفر في معرض أو الترميم سوف، يفقده ذلك الكثير من متعة زيارته لهذا الجناح. أو أن الزائر لموقع الخريبة «ددان» في العلا، وقد تعوَّد على وجود حوض «محلب الناقة» و«واجهات مقابر الأسود» كم ستكون مفاجأة له غير سارة أن يزور الموقع وهو خالٍ منهما. وتقوم بعض الدول بنقل بعض القطع الأثرية من مواقعها، وتنصيبها في الميادين العامة في بعض مدنها أو عواصمها. وهناك العديد من المدن، التي تعرض في ميادينها العامة قطعاً أثرية، وهو أمر قد يكون مقبولاً من وجهة النظر الجمالية للميدان، ومن وجهة النظر الجماهيرية، حيث يتاح للعدد الكبير من الجماهير الاستمتاع برؤيتها، واستجلاء قيمها الفنية أو التاريخية، إلاَّ أن الأمر لا يخلو من مخاطر يمكن أن تتعرض لها هذه الآثار. فعادة ما تكون معرَّضة للأجواء المفتوحة، بما يمكن أن تحويه من: ملوثات، وغبار، وأتربة وعوالق، وتوقع سقوط أمطار أو ثلوج في بعض فترات السنة وما يصاحبه من ارتفاع في معدل الرطوبة النسبية، وكذلك تعرضها لحرارة مرتفعة، أو تذبذبهما (الرطوبة والحرارة) ارتفاعاً وانخفاضاً بالليل والنهار، أو الشتاء والصيف. ناهيك عن احتمالية تعرّض هذه الآثار للتعدي عليها بالتشويه، خدشاً أو اتساخاً أو كتابة عليها، من قِبل من لا يدركون قيمة هذه الآثار وليس لديهم الوعي بتاريخها وبأهميتها. ولعل الأمر المهم في ذلك أيضاً يتعلق بإدراك طبيعة وخواص المادة المصنوع منها الأثر، الذي يُراد وضعه في ميدان من الميادين، أو في بيئة مفتوحة بشكل عام. مثل هذا الأمر له دور كبير في تعرض الأثر للتلف أو مقاومته له، فالآثار أو المجسمات المنحوتة من صخور رسوبية كالأحجار الرملية، أو الجيرية، أو مصنوعة من المعادن، جميعها لا شك سوف تتعرض للتلف عند تعرضها للأجواء المتلفة التي سبق الإشارة إليها، وإن كان معدل هذا التلف يختلف باختلاف درجة تركيز مثل هذه العوامل ومعدلها. أما الآثار المصنوعة من الأحجار أو الصخور النارية والمتحولة، غير المسامية وذات الصلادة العالية، قد تبدي مقاومة، وقوة تحمل، لمثل هذه الأجواء أو لبعضها، ومن أمثلة هذه الأحجار أو الصخور: الجرانيت، والبازلت، والرخام والكوارتزيت (المتحول عن الحجر الرملي). ومع ذلك، تتأثر هذه النوعية من الأحجار بمثل هذه الأجواء المتلفة، على المدى الطويل، وخاصة في أجزائها، أو طبقاتها، السطحية التي قد تحمل نقوشاً أو كتابات. وفي النهاية، يستوجب الأمر عند التفكير في فصل الأثر من موضعه، ونقله إلى موضع آخر، دراسة طبيعة وخواص الأثر المراد نقله، ودراسة طبيعة الموقع المراد فصل الأثر عنه، وكذلك دراسة طبيعة الموقع المراد نقل الأثر إليه، ثم دراسة آليتي الفصل والنقل. ** **