لعلّ الدكتور الوردي بينه وبين قريش بأكملها ترة فهو يضعهم كلهم في كفة واحدة حين تكون الأمور سيئة وسلبية لمستقبل الأمة الإسلامية فيجعل كل وزر كان فيما بعد تتحمَّله قريش بأسرها دون تخصيص لأسرة أو فرع من ذلك إلا قليلاً وكأن ما حدث من انتشار للإسلام وتعاليم الدين والأخلاقيات العربية والإسلامية العالية التي باتت حضارة يذكرها التاريخ شيء لا يذكر أو ذو أهمية يلتفت لها، ولنترك ذلك ونعرّج على فصل (قريش والشعر) ويقول ما نصّه (كانت قريش في أيام الجاهلية تداري القبائل العربية وتحاول الترؤس عليها ....) وكان أمر سدانة الكعبة والشعر يساعدانها في ذلك! ..ثم يكمل فيما بعد (جاء الإسلام فأنزل قريشاً من عليائها وأفقدها تلك المكانة الدينية والأدبية التي كانت تباهي بها الأعراب)! وقريش لم تكن أبداً تحاول الترؤس على القبائل العربية ولم يكن لها ذلك ولكنها لا تحب أن يترأس عليها إحدى من القبائل ولم تكن لتدين لأحد البتة! ودليل ذلك وجود المناذرة في الحيرة والغساسنة في جابية وتخوم الشام وكندة في وسط الجزيرة كملوك وممالك لم تكن قريش تنازعهم المُلك والرئاسة ولم تتبعهم يوماً ما، ولا أدري من أين جاء بكلامه أن الإسلام حين جاء أنزل قريشاً من عليائها وأفقدها تلك المكانة في حين أن الرسول صلى الله عليه وسلم عند باب الكعبة وهو في نهنهة الإسلام وكان بإزائه عثمان بن طلحة قد أغلظ له بالكلام وبيده مفتاح الكعبة فقال له الرسول (صلى الله عليه):(يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوماً بيدي أضعه، حيث شئت فقال عثمان: لقد هلكت قريش يومئذ وذلت فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: بل عمرت وعزت يومئذ) وإذا نظرنا إلى الخلفاء والقادة في عهد الراشدين والوجهاء وجدناهم من قريش وهذا يكفي لدحض كلام الدكتور الوردي في ذلك. أما الشعر فليس للشاعر من بد إذا أراد لقصيدته أن تحلق في الآفاق إلا أن يرد سوق عكاظ وليس مكة كما يقول البغدادي أيضاً فإن قبب الشعراء الكبار كانت تُضرب في سوق عكاظ في الطائف وليس في مكة وأما نيكلسون أستاذ الأدب العربي في جامعة كمبردج فإنه قفز قفزة طويلة من عداء الشعراء جميعاً دون استثناء لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم في بداية الدعوة دون تحديد زمن ويقرن ذلك بإهمال الإسلام للشعر في بداية الدعوة وهذه مغالطة بحيث أن هناك بعض الشعراء المعادين من قريش وشعراء اليهود وليس كل الشعراء ولعليّ أذكر منهم أمية بن أبي الصلت فعلى كفره ليكن في شعره عدواً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عندما رثى قتلى بدر من المشركين سوى بيتين عرّض بهما الصحابة وكذلك الأعشى، ولم يهمل الإسلام بداية الدعوة الشعر لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم ما للشعر من مكانة في نفوس العرب وهو سلاح كان يجابه به كفار قريش قبل إسلامهم ومسألة الإهمال إنما كانت تنبع من الشاعر نفسه من بُعد عن مآثر الدنيا وزينتها وإقبال على الزهد والتقوى كما حدث للبيد بن ربيعة وغيره، على أنه عاد قوياً في عصر بني أمية لتشجيع الخلفاء والولاة على ذلك وهذا صحيح ولكن من الجور أن نجعل هدف حب الشعر والتشجيع عليه كله للغرض السياسي وإن كان لا يخلو منه حيث إن طبيعة العربي آنذاك مجبولة على حب الشعر والاعتزاز به ويعده إرث لا يمكن الاستغناء عنه وسلاح له ولقبيلته وهو بعد ليس ببعيد زمنياً عن العصر الجاهلي حتى يفطم منه. المفاضلات التي يجريها في كتابه فيما بعد بين فرد وآخر أو جماعة وأخرى ليس لها هدف سوى الإثارة لأنه هناك مقارنات هي أشبه بالمحسومة بين طوائف المسلمين وإن شذ عن ذلك القليل لجهل منهم، ولكن كما أسلفت تبقى شواهده ضعيفة المنبع قد لا يعتد بكثير منها فهي أخلاط من مصادر ليس لها ثقة ومراجع عربية حديثة ومن مستشرقين ليس لهم في العربية وتاريخها ظنٌ حسن لذلك ترى الاحتمالات خاطئة كل الخطأ واعتقد أن مقدمته التي أبدى فيها أسفه على عدم نشر الكتاب في الإذاعة حين عرضه عليهم بحجة أن وعاظ السلاطين والسلاطين أنفسهم هم من سيتضرّر من جراء النشر فيه مبالغة، إذ إن النتائج التي انتهى إليها كانت أغلبها لا تمت للحقيقة بصلة لا من قريب ولا من بعيد وإن كان هناك بعض الصواب فهناك من الوعاظ من همه الدنيا في المال والجاه فهذا لا يخلو منه تاريخ السلاطين والبعض الآخر من الوعاظ الذي بعيد عن السلاطين لكنه لا يخلو أيضاً من الأيديولوجية الدينية المتطرفة والقارئ للكتاب بعين فاحصة ودقيقة سيدرك أن ما بين السطور وثنايا الكلمات أهداف غير طبيعية وإثارة يحاول أن يجعل نفسه محايداً فيها وهو ليس كذلك حتى وإن حاول في ثنايا كلامه خلط بعض الشخصيات كإيهام على حسن النوايا ولكن هذا لا يعدو أن يكون ذر الرماد في العيون ليس إلا ولعليّ استشهد على صحة ذلك ما كتبه الدكتور إبراهيم التركي في مقالة له في صحيفة الجزيرة بعنوان (صفّقوا ولا تصدقوا) ففيها حكاية عجيبة لا تتسق مع ما كان يبديه الوردي من علمانية أو نبذ للطائية بل هي رجعية أشد مما كان يتهم به كثيراً من الإسلاميين. ** **