ظل مناضلاً في ميدان الأدب أكثر من سبعة عقود حتى سقط القلم من يده؛ فلقد تغلغل حب الأدب في كيانه منذ يفاعته؛ فعاش طيلة حياته وفيًّا لهذا الأدب؛ يكتب وينتقد ويوجِّه ويحاضر ويشاكس بلا هوادة، ويقول رأيه بكل صراحة فيما يراه ويعتقد أنه الصواب؛ فلا يجامل ولا يحجم ولا يتضعضع، وكان يفسح المجال على صفحات صحيفته «الرائد» آنذاك للمعارك الأدبية التي كانت تدور حول قضايا الفكر والأدب. هكذا عاش الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين حياته الطويلة المليئة بالعمل الدؤوب، والجهد الشاق، والعصامية النادرة، لا يشغله سوى الأدب وسبل النهوض به، وقد أثرى المشهد الثقافي بعدد من الكتب الأدبية، وبسيل من المقالات الأدبية والاجتماعية التي نشرها في بعض المجلات والصحف المحلية. وما هذه الأقلام التي أشادت بمآثره منذ أن نعاه الناعي إلينا إلا اعتراف بدوره الكبير والبارز في دعم الحركة الأدبية في بلادنا، ودفعها إلى الأمام. وقد أسهم الراحل الكبير في فترة مبكرة من حياته في صحافة الأفراد بإصدار صحيفة «الأضواء» مع الأستاذ محمد سعيد باعشن، ولكنها لم تعمّر طويلاً، ثم أصدر مجلة «الرائد» التي تحولت بعد فترة قصيرة إلى صحيفة أسبوعية، استمرت نحو 4 سنوات، وسرد بأسلوب سلس تفاصيل مراحل مشواره الصحفي، وما تعرض له من متاعب في كتابه الماتع «وتلك الأيام». وقد تعرض هذا الكتاب لنقد لاذع من الكاتب والصحفي الأستاذ عبدالعزيز التويجري على صفحات المجلة العربية. وكانت صحيفة «الأضواء» تُصدر سلسلة من الكتب الشهرية (دواوين ودراسات نقدية)، لعل من أبرزها كتابه النقدي «أمواج واثباج» الذي انتقد فيه بشراسة بعض الكتب (التجميعية)، وما تنشره من نظم ضعيف ومختل الوزن أحيانًا، وقد عثرت قبل 10 سنوات على بعض كتب هذه السلسلة النادرة تباع في مكتبة النمنكاني بالمدينة المنورة بثمن زهيد؛ فسعدت بالحصول عليها سعادة لا تحد. تسنم منصب رئاسة النادي الأدبي الثقافي بجدة بعد وفاة الأستاذ محمد حسن عوّاد - رحمه الله - متحملاً أعباء النادي الجسام؛ فأحدث حراكًا ثقافيًّا من بعد فترة ركود، وشهد النادي في عهده قفزة كبيرة في فعالياته الكثيرة والمتنوعة، واستطاع أن يمد جسورًا مع الكثير من الأدباء والنقاد من خارج المملكة، ولاسيما أدباء المغرب العربي من خلال مجلة «علامات» التي تُعنى بالنقد وقضاياه. وأحسب أن من أبرز إنجازات النادي في عهد الأستاذ أبو مدين هو إقامة ندوة كبرى بعنوان «قراءة جديدة لتراثنا النقدي» عام 1409ه، شارك بها نخبة من النقاد الذين أتوا من مختلف البلاد العربية، وقد جمعت تلك البحوث المهمة في كتاب يقع في مجلدين. كان مهمومًا بقضايا الأدب والثقافة، وكان يشغله دائمًا انصراف الشباب عن القراءة الجادة، خاصة بعد ظهور التقنية الحديثة ووسائل الترفيه، وأيضًا كان يشغله سوء توزيع الكتاب في العالم العربي، وما يفرض عليه من رقابة وقيود صارمة، تحد من انتشاره، وكان يحلم أن تذلل تلك الصعاب وتزول هذه العقبات. عرفت الأستاذ أبو مدين شخصيًّا حينما سافرت إلى جدة في صيف عام 1412ه للحصول على بعض مطبوعات النادي التي تنقصني؛ فلقد كان الحصول على تلك الكتب عسير المنال آنذاك؛ فذهبت إلى جدة قاصدًا النادي دون موعد مضروب، وكانت مفاجأة سارة أن أرى الأستاذ جالسًا في مكتبه بمفرده وهو حاسر الرأس في هذا الصيف اللهاب، وقد انشغل بتوقيع بعض الأوراق التي أمامه، وبعد أن عرفته بنفسي تبادلنا عبارات الترحيب المعتادة، ثم أعربت له عن رغبتي في الحصول على إصدارات النادي التي تنقصني، فأحالني مشكورًا إلى الأخ الأستاذ محمد علي قدس الذي كان كريمًا معي، فزودني بكل ما أريده من الإصدارات، وعدت إلى الرياض وأنا في غاية السعادة بهذه الهدية القيمة التي كان لها أبلغ الأثر في نفسي. تعددت لقاءاتي بالأستاذ أبو مدين في بعض المناسبات الثقافية، في الرياضوجدة والمدينة. وأذكر من تلك المناسبات لقاءنا في مؤتمر المثقفين السعوديين الأول المنعقد في الرياض عام 1425ه، كما التقينا في خميسية حمد الجاسر غير مرة، حيث ألقى محاضرات عدة عن الشاعر عادل الغضبان ومجلة الكتاب، ومحاضرة بعنوان «بين الآنسة مي وولي الدين يكن»، و محاضرة أخرى عن طه حسين وشعراء العصر، وقد كنت أخرج من تلك المحاضرات بفوائد عديدة. ومن الملاحظ في كتابات الأستاذ أبو مدين اهتمامه البالغ بمدرسة البيان في العصر الحديث في مصر، من أمثال المنفلوطي والزيات والبشري وغيرهم؛ فكتب دراسات مهمة عدة عن هؤلاء الأعلام في الجزيرة وعكاظ وملحق الأربعاء. ومن أجمل ما كتب قصة لقائه الوحيد مع الأستاذ أحمد الزيات في مكتبه في مجلة الأزهر عام 1381ه، حينما أُشيع خبر وفاته. وآخر العهد بالأستاذ عبدالفتاح أبو مدين كان في العام الماضي (1440ه) حينما كُرّم في مهرجان الجنادرية، ومنح وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى. وقد حرصت على رؤيته والسلام عليه، ثم التقاط صورة تذكارية معه بهذه المناسبة التاريخية، فكان هذا آخر تكريم يناله في حياته، وآخر لقاء. رحمه الله. ** **