في الجزء الأول أشرنا إلى تجارب عدد من الكتَّاب والأدباء في التعامل مع الكتابة، وقلنا إن الكتابة فن رفيع وعمل نبيل.. وقدمنا عددًا من الأساليب والطرق التي يتبعها بعض الكتاب للبدء في الكتابة وممارسة فنهم الرفيع. وفي هذا العدد نستكمل ما بدأناه ونشير إلى تجارب مبدعين آخرين. الشاعر محمود درويش قال يوماً عن كيفية البدء في كتابة نصوصه: تبدأ القصيدة عندي عندما يأتيني إحساس بالاختناق من مجموعة أسئلة تحيط بي، وهذه التساؤلات تتحول إلى فكرة ثم تتحول إلى صورة شعرية، ولا أتمتع بالكتابة إلا بعدما يأخذ النص شكله وأتلذذ بالكتابة في منتصفها وليس في بدايتها، إذ إن صعوبة الكتابة في العلاقة مع هذا الورق الأبيض الذي سأرسم عليه صورتي الشعرية، وعموماً تبدأ القصيدة عندي من فكرة أو خاطرة أكون قد دونتها في دفتر صغير لا يفارقني أضعه دائمًا في جيبي وهو يحوي رؤوس الأفكار التي تتحول إلى قصائد وأشعار.. وفترة الخصوبة التي أكتب فيها دائمًا هي فترة الصباح.. أما المساء فلا يناسبني فيه الكتابة ولا أعرف لماذا. ويعيش بعض الكتاب في صومعة من أجل الكتابة.. فيجلس وحيداً لساعات كل يوم مثل الكاتب محمد عفيفي الذي خصص غرفة في الدور العلوي لمنزله للكتابة.. وكان أولاده يطلقون عليها «الصومعة» لأنه يمنع الجميع من الصعود إليها.. فلا يدخل عليه أحد إلا بعد أن يدق الجرس.. فيسرعون إليه لمعرفة ماذا يريد.. وبعد أن ينتهي من الكتابة يجلس مع عائلته فهو لا يكتب إلا منفرداً. وعلى عكسه تمامًا كان الأديب إبراهيم المازني يكتب في كل مكان.. فقد يكتب في مكان هادئ.. أو في مكان حافل بالصخب والضجيج مثل القهوة التي يجتمع فيها الناس ويتحدثون بأصوات متداخلة. وهي قدرة عجيبة لدى المازني.. ربما لأنه كان سريع الكتابة كما وصفه عدد من محبيه فيكون تركيزه عاليًا ولا يهتم لأصوات من حوله. ومن أعاجيب الكتاب وغرائبهم أن الكاتب أحمد بهاء الدين الذي كان أحد رؤساء التحرير في مجلة العربي الثقافية له طريقة مميزة، فهو يكتب بقلم الحبر ويحرص على قلب الريشة ليكون الخط رفيعًا. وبطرس البستاني يكتب واقفاً إلى مكتب مرتفع يشبه بعض مكاتب البنوك.. وهو يتشابه مع بعض الكتاب المشاهير مثل تولستوي، وهوغو في ذلك.. فالبعض يحب أن يكتب وهو واقف! وهناك من يحرص على استمرارية الكتابة دون توقف مثل أنيس منصور الذي كان يكتب كل يوم حتى أن يده اليمنى أصيبت بكسر وأصر أن يكتب بيده اليسرى مستخدمًا أقلاماً غليظة إلا أن التجربة فشفلت. وهناك من يتوقف عن الكتابة أيام العطل مثل محمد سعيد الريحاني الذي يقول إن فكرة الكتابة في الوقت الميت لا تستهويه، فالكتابة التي لا تتوافر على الوقت الكافي لا تحقق تماسكها الداخلي أولاً ثم تحدث أثرًا ملموسًا على جمهور القراء. ومن أغرب حكايات الكتاب قصة الأديب الفرنسي مارسيل بروست الذي عاش حياة غريبة بسبب مرض نادر.. فهو لا يحب النهار وضوء الشمس.. وقضى حياته في غرفة بسبب شدة الحساسية تجاه الضوء. كتب العديد من الكتب، وكانت نهايته في تلك الغرفة فقد مات في غرفته المظلمة وإلى جواره الكثير من الأوراق. وقد رآه الكاتب كوكتو وهو مسجى في غرفته فكتب عنه مقالاً حزينًا يصف فيه الغرفة.. وبرست.. والأوراق المتناثرة حوله. وكان ما قاله أن بروست ظل يكتب حتى آخر لحطة رغم معاناته.. كل شيء في الغرفة كان ساكنًا إلا نبضات الشخوص التي وضعها برسوت في تلك الأوراق، وكأنه يحاول أن يمسك بها وأن تمسك به.