عندما يرحل الفنانون التشكيليون، تتألم أطراف الساحة القريب منها والبعيد، وتنطفئ منارة كبرى كانت ترسل إشعاعات إبداعاتها في ربوع الوطن، وعندما يرحل المبدعون تنفطر القلوب لذهابهم، ولكن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفًا من كل جلل، وثمة علامات فارقة في تاريخ الدول يخطها رجال من نوع خاص, وثمة لحظات مضيئة تظل محفورة في الذاكرة ولا تبرحها، وهنا تحديداً يصبح الفراق مؤلماً وثقيلاً حين يكون لهؤلاء الذين ظلوا علامات مضيئة في زمنهم ومشعّة في أزمنة لاحقة، وتتوالى الأحداث في إرهاصاتها وانفعالاتها بخيرها ومعاناتها، وبعد نصف قرن من تاريخ التشكيل السعودي نبحث في جنباته، ومن خلال العدد الكبير الذي قارب العشرين ألف فنان، هناك ثلة من الفنانين الذين فارقونا عن هذه الدنيا بأجسادهم، منهم من تركوا بصمة مؤثرة وإنجازاً خالداً وحققوا أعلى درجات التوازن الفني وكانوا علامة فارقة في خارطة التشكيل السعودي، نالوا القبول والاستحسان والتقدير العالمي، ومنهم من اجتهد وكان القدر أسبق من أحلامهم وطموحاتهم، فهذه سنة الحياة، «وتتساقط أوراق الإبداع» ويتركون لنا لوعة الفراق وألم البعاد، ونستعيد ذكريات ماضيهم التي تحملوها بصبر وعصامية ومعاناة، لإيمانهم بعبء الرسالة وقدموا إنتاجهم الفني للتعبير عن ذواتهم وما صاحب ذلك من إخفاقات وإحباطات ونجاحات، كانت من العوامل المهمة على بلورة التشكيل السعودي، وتركوا لنا إرثاً خالداً شاهداً على إبداعاتهم وأثراً واضحاً وعميقاً ونهجاً يُحتذي، ساعدت على اجتذاب الكثير من الفنانين الشباب ومهدت الطريق للأجيال اللاحقة، وحتى العام 1440ه فارقنا إلى الدار الآخرة كل من (أحمد الزهراني، أحمد الغامدي، حسن السنان، حسن عسيري، حسن مليح، خالد العبدان، زهير إحسان، سلطان عسيري، ضيف الله القرني، عبدالإله الخيال، عبدالجبار اليحيا، عبدالحليم رضوي، عبدالرحمن دمنهوري، عبدالرشيد سلطان، عبدالعزيز الحماد، عبدالله الشيخ، عبدالله العبداللطيف، عبدالعلي السنان، علي الألمعي، علي الحمود، علي الدوسري، علي الضمادي، علي الغامدي، علوان أبوراسين، فايزة الحربي، فهد الحجيلان، محمد الزرقاني، محمد السليم، محمد الصندل، محمد العمير، محمد راسم، محمد سيام، منصور كردي، منيرة موصلي، ميرزا الصالح، نبيل طاهر، نصير السمارة، نهلة تركستاني، هادي الخالدي، هاشم المهنا، هاشم سلطان، ياسر أزهر)، وهذه الأسماء التي أتذكرها ودونت بعضها فكتابي (فن في نصف قرن) وكتاب (إضاءة للذكرى) إسهاماً مني للحفاظ على هذه الأسماء من النسيان والاندثار، وأكيد الكثير من الفنانين لا يعرفهم أو لم يسمع عنهم، وأيضاً الكتّاب والباحثون والمؤرخون الذين أسقطوهم من أجندتهم ولم يكتبوا عنهم في أي من الكتب التشكيلية السعودية، بسبب قلة مشاركاتهم وترفعهم عن الظهور إلى العلن والركض خلف الأضواء والصحافة، والتالي لم تهتم لبعضهم الجهات المعنية للفنون، وفي «رأي» هؤلاء يمثلون سطوراً مهمة في تاريخ التشكيل السعودي لا يمكن تهميشهم وإهمال من لم يذكر أو يكرم، وإن شاء الله لا توجد غيرهم ويطيل في أعمار الجميع ويستمر عطاؤهم الإبداعي، والأمل معقود في وزارة الثقافة في عهدها الجديد التليد بقيادة وزيرها الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود، في إقامة متحف لأعمالهم يرتاده زوار الدولة ويصبح جزءًا من برامج السياحة كما هي المتاحف في دول العالم، واقتناءها من الورثة واسترجاعها من مالكي اللوحات قبل أن تضيع وتندثر مع عثرات الإهمال وعوامل النسيان، لأنها أصبحت من تراث الوطن الثقافي، يجب الحفاظ عليها وإبرازها كنموذج للفن التشكيلي السعودي، ليضيء ما بدواخلنا من ذكريات فنحن لا نبكيهم لأنهم رحلوا، بل نبكي أنفسنا لأنهم تركونا وحدنا وإن كل آلامنا ودموعنا لأننا لن نراهم بعد اليوم في دنيانا، وقد كانوا جزءًا من حياتنا، إننا نبكي من أجلنا نحن، لا من أجلهم، لأنهم رحلوا، فلن يشعروا ببكائنا، ولن يستعيدوا شيئاً مما مضى، ولن يكون بمقدورهم أن يصنعوا شيئاً لأنفسهم، أيها الأعزاء الراحلون إن للموت حقًا وجلالاً ولنا من بعدكم انتظار في محطات قد تطول وقد تقصر، وقد ترهق وقد تصفو، وقد تُضحك وقد تُبكي، حتى يأتي بلا هيبة أو تردد، يختارنا واحداً إثر آخر... {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} وعزاؤنا في فراقكم، أعمالكم الفنية التي نتمنى أن تكون جزءًا من المعارض والفعاليات الداخلية والخارجية بما يمد جسور التواصل معكم والتي تذكرنا بكم لنتواصل الدعاء لكم، انتظاراً لمشاهدتها في متحف للفن السعودي، وألا يكون النسيان عذراً ومقبرة للوفاء.