يصدّر طرابيشي تقديمه للجزء الأول بكلمة للقاضي عبدالجبار المعتزلي: (ليست الكثرة من أمارات الحق ولا القلة من علامات الباطل) وهذه كلمة حق يراد بها باطل !... وهذه أيضاً ربما أيديولوجية ليست بجديدة وإنما كما قلت منذ سقوط الدولة العثمانية وظهور المد الإسلامي بأنواعه كانت المخاوف المسيحية العربية تخشى من ذلك أمرين وهما: 1- الإقصاء سواء كان متعمداً أو غير متعمد وهذا يعتمد على أنهم أقلية قد لا تستطيع فرض نفسها على الواقع الاجتماعي والسياسي وبالتالي تكون الهوّية في مهب الريح. 2- الاضطهاد وهو ما يخشاه كل الأقليات وأغلبها المسيحية ويتمثل في صعود الإسلام الراديكيالي وبالتالي قد تُمارس على الطقوس ودور العبادة المسيحية شيئاً من الشدة والضغوط ما يحيل الأمر إلى النفور والهجرة وقد يصل الأمر إلى ما لا تحمد عقباه من قتل وتهجير. تلك المخاوف التي سادت الشارع المسيحي بعد سقوط الدولة العثمانية في الدول العربية والإسلامية فكان لا بد من ظهور بعض الكتّاب والمؤلفين من تكون لهم الحميّة على الهويّة المسيحية وهو عمل الضد بالضد حتى ولو كان ذلك من توهم الطائفة ليس إلا ! فكان العمل إما بشكل فردي أو جماعي والخيار المستهدف والذي حتى بعض العرب القوميين والمسلمين ينادي به هو العلمانية كحل ليس فيه اتهام بقومية ولا طائفية وتحقيق ذلك لا يكون إلا بالمقاومة الفكرية وبيان سوء واقع الآخر واستراتيجيته الخاطئة عبر المطارحات الفكرية والاحتجاج الفلسفي وهذه كانت من أولويات جورج طرابيشي الذي يحاول أن يدفع كتاباته نحو نقاش سفسطائي لصلاحية العلمانية كحل ينتشل العرب من مأزق التخلف وطرح الفكر الديني خارج الزمن الحقيقي الراهن كأوروبا القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وحتى أوروبا بعد حرب الإصلاحيين على الدين تبنّت علمانية صريحة في كثير من دولها إلا أنهم لم يستطيعوا فصل الدين عن الدولة كلية وكأنه يرى أنها لم تطبق العلمانية كما يجب، والعجيب أنه ينادي بالديمقراطية وهذا تناقض صريح في الرؤى ولكن يبقى غياب الدور المسيحي عن الساحة الفلسفية المشرقية والمغربية في أوج الحضارة العربية الإسلامية كان له الأثر الكبير في نفسية طرابيشي عبر أيديولوجية سابقة بحيث انعدام الدور الفلسفي للنصرانية في المحيط العربي والإسلامي مع حضور الهرمسيّة واليونانية بأشكالها الفارسية المجوسية والهندية وإن كانت بعض الترجمات من بعض النصارى إلا أنهم ليسوا لهم فيها حظٌ، كل ذلك قلل من حظوظ الوراثة الحضارية للهويّة المسيحية في العالم العربي والإسلامي الذي أعطى مفهوماً لديهم أن ليس هناك حق في المطالبة بحقوق استراتيجية يعوّل عليها لذلك لا بد أن تكون الخيارات لها سابقة في الحياد مع نبذ القومية والطائفية اللذان يعتبران أنهما أساس المشكلة فالخيار العلماني هو نتيجة حتمية لنتائج الحداثة الأوروبية وشعارها الديمقراطية والحرية والتي تبناها أيديولوجيات غربية فشلت معظمها في إثبات تفوقها الديمقراطي مع قضائها المبرم على سلطة الدين (الكهنوت)الشيوعية بل حتى الثورة الفرنسية أثبتت فشلها بعد أن تبنت العلمانية كطريق للجمهورية الأولى فلم تستطع أن تفي بوعودها مما حدى بالمطالبة بإعادة الملكية مرة أخرى لذلك لا يجب أن يكون اعتقادنا أن الدين هو العائق للعقل والحرية وبالتالي للتطور المرادف للحداثة فهذه إحدى المفاهيم الخاطئة وخصوصاً حين تكون المقارنة بين مجتمعين مختلفين ودينين مختلفين وفيهما اختلافات من شأنها أن تهدم كل مقارنة منذ البداية وخصوصاً إذا تطرقنا للدين الذي يعتبر عند طرابيشي ورفاقه العائق الكبير والهدف الأسمى لاقتراح ما يناقضه بل المطالبة بمحاربته وعدم اعتناقه كلية كما عند الأوروبيين في العصر القروسطي دون أن يعي أن مشكلة المسيحيين تكمن في المنهج والقراءة لكونه كتابا محرّفا بشهادة الأسماء التي تصاحب كل إنجيل مرادف لاسم كاتبه وليس ناقله (إنجيل متّى، إنجيل لوقا .....) وفيه من الميثالوجيا اليونانية ما لم تتفق عليه الأديان بله أن ترويه وهو بخلاف الميتافيزيقيا أي ماوراء الطبيعة والتي يكون فيها الغيبيات شاهدة على المعجزات التي تبرهن على وجود الخالق بينما الإسلام نجد أن القرآن الكريم يحث على التفكير والتفكر وإعمال العقل ولا يعارض التطور والحداثة الصحيحة أو الحقيقية التي توافق طبيعة الإنسان وإنما تأتي الهنّات البشرية والتطرف من القراءة الخاطئة للمنهج فقط وهذا ما يجهله أو يتجاهله كثير من أصحاب طرابيشي وطرابيشي نفسه. ** **