يقول طرابيشي في مقدمة هرطقاته: (والهرطقة في اللاهوت المسيحي ترادفها البدعة في الفقه وعلم الكلام الإسلامي..) ثم يأتي في غلاف الكتاب الأخير ليؤكد ذلك بزيادة: (الهرطقة في المعجم اللاهوتي المسيحي تقابلها البدعة في المعجم الإسلامي. ولكن على حين أن الهرطقة في المعجم الأوللا تعني سوى الخروج على العقيدة القويمة، فإن البدعة مشتقة في العربية من نفس المصدر الذي تشتق منه كلمة إبداع، فكأن لا مبدع إلا أن يكون مبتدعاً، أي خارجاً في محصلة الحساب على الإجماع والفكر الجماعي)! وهذا ما يريد أن يصل إليه طرابيشي بعد أن يكمل دورة كاملة أي أن المسلمين متخلفون فكرياً والمبدع حين يكون مبدعاً محارب بشدة كمبدع لأنه خرج عن المألوف فالانتقام مزدوج من المبدع والإبداع وهذا تشبيه بعمل الجهلة ولم يكلف نفسه جهد دقائق أن يفتح أقلها كتاب لسان العرب ليدقق قليلاً في معنى كلمة (بدعة) ليراها على حقيقتها وهو بهذا لا يريد معناها الاصطلاحي وإنما أراد اللغوي كمفردة (إبداع) دون النظر إلى تعدد المعنى وهذه رسالة مبطنة وتقزيم متعمد للفكر الإسلامي وأن الإسلام ضد الإبداع والتجديد وأنه متخلف في أسبال عقدية قديمة دينية لا يستطيع الفكاك منها العقل العربي، ونجد ذلك في متن كتابه لذلك لن تكون له فلسفة ما دام الدين ممسكاً بزمام الأمور ولكي يكون صادقاً فهو يبعد نفسه عن المسيحية بأن يحكي حكايته الطريفة التي أبعدته عن الدين حتى لا يتهم بذلك وحتى لا يكون القصد طائفياً بعد أن كان فيها متديناً حد الوسواس كما يقول ثم نضى تلافيف دماغ إيمانه بعد خروجه من الكنيسة يوماً من عظة الكاهن الذي تلا عليهم من اللاهوت المسيحي ما العذاب وما الأبدية في جهنم لمن يموت على الخطيئة؟! وما تلك الخطيئة؟! لا أدري! واعتقد أياً كانت! ولكن تظل الأيديولوجية مسيطرة على الفكر الطرابيشي مهما حاول أن يبتعد بالإلحاد أو غيره، وبالطبع اقتران الهرطقة بالبدعة غلط متعمد منه واعتقد بأنه يعلم أن الهرطقة تقابلها في العربية (الزندقة) وليس البدعة لأن البدعة كما ينقلها ابن منظور عن ابن الأثير: البدعة بدعتان بدعة هدى وبدعة ضلال فما كان ما خالف الله به ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فهو في حيز الذم والإنكاروما كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله إليه وحض عليه أو رسوله فهو في حيز المدح.. بكل بساطة إن كان هناك وزر فلا تخرجه من الملة بحيث أن فيها بدعة حسنة كما كانت في صلاة التراويح عدما قال عمر بن الخطاب: نعمت البدعة! بحيث لا يكون فيها إثم أو خطيئة أما الهرطقة أو ما يقابلها الزندقة فهي تتعلق بالعقيدة كاعتناق دين وثني أو الإلحاد التي تقابلها في اللاهوت المسيحي هرطقة كما قال طرابيشي عنها الخروج عن العقيدة القويمة! ولكنه كان تمهيداً للحكم على الإسلام كدين ثيوقراطي كالذي كان في العصور الغابرة في أوروبا، بل ربما أسوأ ويعود ذلك إلى أسباب عدة فحينما كانت الثورة العربية في نهاية الدولة العثمانية التي كانت تحتضر إيذاناً ببدء تاريخ جديد للعرب ولو إني أعتقد أيضاً بأن تلك الثورة لم تكن سوى تجمعات ثورية بسيطة شجعها الإنجليز والفرنسيين وليست ثورة جامعة وفرضها الواقع الضعيف للدولة العثمانية بحيث جعلها بعض فقهاء الصحوة سبباً في سقوط العثمانيين وإن كانت الدول الاستعمارية بريطانيا وفرنسا قد تحصلان على كل شيء بسهولة ويسر بعد أن قُبر الرجل المريض وأصبحت البلاد كلها من أقصاها إلى أقصاها نهباً للغزاة فكانت الأغلبية القومية والطائفية لها الكلمة والقرار داخل القُطر العربي وبما أن الأغلبية مسلمة وعربية فلا شك أن القرار يكون عربياً وإسلامياً من هنا كانت بداية المخاوف للأقليات المسيحية خصوصاً وغيرها عموماً والتي تتوزع في الدول العربية ذات الأغلبية المسلمة من مسألة ظلت شائكة على مدى قرن من الزمان وهي مسألة الديمقراطية والحرية لذلك كانت الهجرات تتزايد إلى دول الغرب الأمريكي بشقيه الشمالي والجنوبي لأغلبية المسيحيين حتى كوّنوا هناك روابط وأحزاباً استحالوا بعدها إلى جزء من المجتمع الأمريكي وعرفوا بما يسمّى بالرابطة القلمية، وشعراء المهجر. من الهرطقات بجزئيه وحتى نقد نقد العقل العربي يمر القارئ بعدة محطات لطرابيشي في النقد المستهدف لمكانة الفكر العربي والإسلامي عبر تاريخه من بداية احتراف الفلسفة من قبل المسلمين الأوائل أي الفلسفة المشرقية حتى ظهور مشروع محمد عابد الجابري، وقد يجد البعض أنها مناكفة وأننا رجعنا إلى مسألة التعصب الديني واعتقاد المؤامرة، وهذا غير صحيح لأن كل ذلك إنما هو من بُنات أفكار طرابيشي وقلمه والمرء مخبوء تحت لسانه كما يُقال وعقله أيضاً. ** **