تخريج دفعة جديدة بمعهد الدراسات للقوات الجوية بالظهران    افتتاح المتنزه سيشكل نقلة نوعية.. الداود: القدية وجهة عالمية للترفيه والرياضة والثقافة    1 % ارتفاع التكاليف.. نهضة قوية بقطاع البناء في المملكة    موجز    وصول الطائرة السعودية ال 76 لإغاثة الشعب الفلسطيني    الوقت كالسيف    أكد الالتزام بمرجعيات المرحلة الانتقالية.. العليمي يدعو المجلس الانتقالي لتغليب الحوار    ترأسا الاجتماع الثالث لمجلس التنسيق المشترك.. وزير الخارجية ونظيره العماني يبحثان تعزيز العلاقات    الاستعداد للامتحان    «النيابة»: يحظر ترك الحيوانات خارج الأماكن المخصصة لها    أقر عدداً من مذكرات التفاهم الدولية.. «الشورى» يطالب جامعة الملك خالد بتطوير إستراتيجية «الموارد»    ب "علينا"… علي عبدالكريم يستعيد عرش الأغنية الطربية    استعراض التخلي    الذكريات.. أرشيفنا الذي لا يغلق    الكلام    «نسك حج» المنصة الرسمية لحجاج برنامج الحج المباشر    أوميغا- 3 والحوامل    18 ألف جنيه إسترليني تعويضاً عن ركل سائح    «التخصصي» يحقق جائزة «أبكس» للتميز    الداخلية السعودية تسهم في إحباط محاولتي تهريب 200 كيلوجرام من المخدرات بسلطنة عمان    غارات على رفح وخان يونس وتجدد نسف المنازل في غزة    سعود بن نهار يطلق "شتاؤهم عون ودفء"    الشورى يطالب جامعة الملك خالد بتطوير الأداء وتحقيق الأهداف    تعليق الدراسة.. حل أم مشكلة؟    «قسد» تستهدف أحياءً سكنيةً ونقاطاً لقوى الأمن الداخلي والجيش السوري    لؤلؤة الشرقية    برشلونة يبتعد عن الريال    دراسة أثرية تكشف فجوة تاريخية منسية في وادي القرى    طائرة الأهلي تكسب الهلال    في الشباك    تجاويف العُلا الصخرية.. خزانات طبيعية    الكويت في موسم الرياض.. حكاية بحر وهوية مدينة    الملحق العسكري في سفارة مصر بالمملكة يزور التحالف الإسلامي    مجمع الدكتور سليمان الحبيب بالعليا يجري عملية استبدال للركبة باستخدام مفصل مطبوع بالتقنية ثلاثية الأبعاد    «التخصصي» يحقق جائزة «أبكس» للتميّز    لجنة التحكيم بمهرجان الملك عبدالعزيز للإبل تعلن الفائز الأول في شوط سيف الملك "شقح"    اتفاق النخبة يواصل صدارته قبل التوقف    القادسية بطلاً للمملكة للسباحة ب 36 ميدالية    ترشيح الحكم الدولي د. محمد الحسين لبرنامج التعليم التحكيمي الآسيوي 2025 في سيئول    مناورات صاروخية إيرانية    طائرات مسيرة واغتيالات نوعية تحولات في أدوات صراع موسكو وكييف    أمين نجران يتفقد المشروعات البلدية بشرورة والوديعة    ورشة عمل تناقش الاستفادة من الدعم الحكومي لرأس المال البشري في قطاع الإعلام    وزير الإعلام: تنفيذ المرحلة السابعة من قطار الرياض العام المقبل    مكتبة الملك عبدالعزيز العامة تطلق مهرجان القراءة ال 25    أمير جازان يستقبل رئيس جامعة جازان الدكتور محمد بن حسن أبو راسين    الجمعية التعاونية الزراعية التسويقية بخميس مشيط تطلق مبادرة «تمكين"    جناح إمارة مكة المكرمة يقدم عرضًا تعريفيًا عن محافظات المنطقة ضمن مهرجان الإبل    بين الملاحظة و«لفت النظر».. لماذا ترتاح المرأة للاهتمام الذي لا يُطلب !!    الإدارة العامة للاتصالات والأنظمة الأمنية تدعم الجاهزية التشغيلية في معرض «واحة الأمن»    انطلاق رحلة وزير السياحة على مسار الشمال السياحي من الرياض لحائل    خطط «الصحة» على طاولة أمير القصيم    «الشؤون الإسلامية» في عسير تنفذ 30 ألف جولة رقابية    انطلاق تصفيات مسابقة الملك سلمان لحفظ القرآن في جازان    تنوع بيولوجي في محمية الملك سلمان    إنفاذاً لأمر خادم الحرمين الشريفين.. وزير الدفاع يقلد قائد الجيش الباكستاني وسام الملك عبدالعزيز    إنفاذًا لأمر خادم الحرمين الشريفين.. سمو وزير الدفاع يُقلِّد قائد الجيش الباكستاني وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الممتازة    في كل شاب سعودي شيء من محمد بن سلمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حين توصد العقيدة الباب أمام الفلسفة
نشر في الحياة يوم 03 - 05 - 1998


جورج طرابيشي
مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام
دار الساقي
1998 - 126 صفحة
يفنّد تحري مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام ادعاء الايديولوجيا الاستشراقية حول تفارق أقدار الفلسفة في هذين العالمين، ويملي إعادة قراءة للعقل العربي الإسلامي في فضائه الثقافي الخاص لتجاوز طروحة ان السلطة الدينية عادت الفلسفة واستغنت عن الموروث العقلي اليوناني، كما حصل مع المسيحية في القرون الأولى.
فلا يمكن القول إن المرجعية الدينية قاطعت المنظومة الارسطية والمعقول اليوناني بصورة أعم. فأهم ما يميز هذه السلطة المرجعية هو ازدواجها إلى سلطة فقهاء معادين ل "علوم الأوائل" وإلى سلطة متكلمين كان لهم السبق حتى على لاهوتيي مسيحية العصور الوسطى اللاتينية في توظيف الفلسفة في خدمة اللاهوت.
يرتدي تاريخ الفلسفة من حيث هو نظر العقل في العقل، أهمية استثنائية. فمع تنامي المركزية الاثنية الأوروبية، بات تاريخ الفلسفة مركزاً لصراع انثروبولوجي. فالحضارة الأوروبية الغربية التي قرأت نفسها حضارة عقل مطلقه، أعادت على ضوء هذه القراءة النرجسية قراءة تاريخ الفلسفة. وقد كانت النقطة المركزية في إعادة القراءة هذه تغريب Westernization العقل اليوناني بوصفه العقل المؤسس للحظة ميلاد الفلسفة. حيث جرى فصل هذا العقل عن منابعه التاريخية والجغرافية وحُول مجراه، في نوع من المصادرة، نحو الغرب الأوروبي الذي لم يسهم في تغذيته ذلك الحين، وإنكار مرور نهر الفلسفة في الحضارة العربية الإسلامية.
ويعد ارنست رينان أبرز من تصدى لمهمة الانكار هذه. فقد كان أحد كبار معماريي المركزية الاثنية الأوروبية وأحد صانعي اسطورة تفوق الجنس الآري ودونية الجنس السامي في القرن التاسع عشر التي عملت على تحويلة الفلسفة، جنابة الفلسفة، غربة الفلسفة، موت الفلسفة في دار الإسلام. ومن ثم أشيد بالمسيحية بوصفها مهد الفلسفة، بالمقابلة الضدية مع الإسلام بوصفه لحد الفلسفة.
ولكن هل صحيح ان الإسلام وقف من التراث اليوناني، والفلسفة بالتحديد نقيض موقف المسيحية؟ إن المسألة تتعلق أساساً بافتقاد أوروبا ماضياً مجيداً، ما يجعلها متلهفة إلى فبركة تاريخ الفلسفة واختراع ماضٍ مثالي. لقد جاءت المسيحية، حتى قبل تسنينها في عقيدة مغلقة، مصادمة لروح التفلسف اليوناني، في مظاهر ميتافيزيقية وسيوسولوجية وابستيمولوجية، بل حتى ايديولوجية. فشنت حملة شعواء ضد الفلسفة ومنذ البدء مع الرسول بولس الذي استغنى وحذر من أوهام الفلسفة وأضاليلها الباطلة.
ومع تقدم انتشار المسيحية في القرن الثالث، وعلى الأخض الرابع الميلادي، غدا التفلسف اليوناني صفة مرذولة ومرادفة للوثنية.
وابتداء من الربع الثاني من القرن الرابع الميلادي، تحولت المسيحية إلى ديانة دولة. وبلقاء الدين مع السلطة السياسية تم تنسيق العقيدة، باتت يد الدولة تتدخل وتضيق مجال التفكير الشخصي مقصية من أجل ذلك حتى الهامش من حرية الاجتهاد والتأويل. وكان مآل الفلسفة، رغم أنها لم تمثل خطراً، الانزواء إلى موقف دفاعي وانحصر مجال تأثيرها بالوسط المدرسي حتى تم اغلاق الجامعة الفلسفية في أثينا عام 529 التي كانت آخر مدارس الفلسفة اليونانية. وفرّ فلاسفتها إلى أرض فارس طلباً للامان عند كسرى أنو شروان.
إن العقيدة القويمة والمسننة لمسيحية القرون الأولى قتلت الفلسفة مرتين: أولاً باجتثاثها الفلسفة اليونانية من أرومتها، وثانياً بحؤولها دون ازدراع فلسفة مسيحية وريثة أو بديلة. فتاريخ الفلسفة في مسيحية القرون الأولى هو تاريخ قطيعة وغياب. فالعقيدة القويمة والفلسفة ضدان لا يجتمعان. وهذه العقيدة أصلاً لا تقبل فلسفة من خارجها كما أنها لا تفرز فلسفة من داخلها.
أما عن قدر الفلسفة وسوء مآلها في المطاف الأخير على أرضية الفكر العربي الإسلامي، فإنها ازدهرت بين ربوع هذا الفكر ولقيت عناية كبيرة منذ القرن الثاني للهجرة ولم تدخل في غيتو إلا مع الغزالي في "تهافت الفلاسفة" الذي هو من نتاج نهاية القرن الخامس للهجرة. وكل الشواهد الاستشراقية التي تورد على سوء مآل الفلسفة ونفيها واقصائها في الفكر الإسلامي تعود إلى القرن الخامس الهجري، بل أن أكثر الشواهد منتزعة من سجلات القرنين السابع والثامن الهجريين.
إن الوقائع عقيدة كما يقول المثل. ووقائع التاريخ العربي الإسلامي تقول إن الفلسفة العربية الإسلامية قد وجدت، وأن عشرات من الفلاسفة، قد عاشوا ونبغوا في القرنين الثالث والرابع للهجرة، وألفوا كتبهم بالمئات، واصطفوا بالعربية لغة فلسفية لا تصمد للمقارنة معها، قبل ثورة الحداثة الأوروبية، سوى يونانية العصر الهلنستي أو لاتينية العصر الوسيط المتأخر. ولئن تكن الفلسفة قد ماتت، فهذا معناه أيضاً أنها قد عاشت وتطاول عمرها ما بين قرنين وثلاثة قرون، والأسباب التاريخية التي ماتت بها الفلسفة في الوسط الإسلامي - وفي الرقعة الجغرافية المركزية منه - هي عينها الأسباب التي كانت أدت في مسيحية القرون الأولى إلى دفن الفلسفة اليونانية وحالت دون مولد فلسفة مسيحية. فما قتل الفلسفة مرتين في مسيحية القرون الأولى قتلها للمرة الثالثة في إسلام القرون المتأخرة: تسنين العقيدة القويمة.
في جو التعصب الطائفي، والتمترس المذهبي، والصرامة العقائدية تختنق الفلسفة. فالتسامح هو أوكسجين الفلسفة بقدر ما أن التعصب هو ثاني اوكسيد فحمها. والفلسفة بطبيعتها خاصة، فيما الايديولوجيا، لا سيما إذا ما تلبست مضموناً طائفياً، بجوهرها عامية. وبغداد في النصف الثاني من القرن الرابع والقرن الخامس بتمامه تقدم نموذجاً لمدينة تعيش في ظل استنفار ايديولوجي دائم. مجتمع منشطر - لم يوجد فضاء متعدداً - وهو الذي تحيا فيه الفلسفة. فقد افتقدت تربة نسغ التعددية المغذي فما كان إلا أن ذوت وماتت. ومع أواسط القرن الخامس كانت سلالة فلاسفة بغداد ومناطقتها قد انقطعت، ولم يبق وريث واحد لتلك الذرية التي تنطعت في ظل حضارة مركزية كالحضارة العربية الإسلامية "للنظر في العقل بالعقل".
فمع "الاعتقاد القادري" تم التلاقي والتطابق ما بين السلطة الشرعية التي يمثلها الخليفة والسلطة الايديولوجية التي يمثلها "الزهاد والعلماء والفقهاء". وإذا أضفنا إلى ذلك سلطة الشارع العامية، كما كان يقال آنئذ، أمكن لنا أن نتصور كيف نجمت عن هذه السلسلة من التماهيات بين سلطة التقرير وسلطة التفسير وسلطة التنفيذ، ارثوذكسية إسلامية انتهت إلى أن توصد أمام العقل اللاهوتي، فضلاً عن العفل الفلسفي، في الثقافة العربية، الباب الذي كانت أغلقته الارثوذكسية المسيحية من البداية في الثقافة اليونانية. ومن هنا فإن التطهير الايديولوجي للفلسفة في القرن الخامس تحول في القرنين السابع والثامن إلى حملة شرسة ضد الفلسفة وحتى جذور علم الكلام. ومرد الأمر يعود إلى تقنين العقيدة القويمة وإلى ما تتأدى إليه هيمنتها من تسطيح وتسوية لتضاريس الاختلاف بمدحلة الفكر الأوحد. فالكلام والفلسفة تشغيل للعقل، والعقل لا يشتغل إلا إذا اختلف. وحتى إذا طلب الوحدة، فإنما من خلال حقه في أن يكون مختلفاً وفي أن يعيد بناء الوحدة من خلال اختلافه بالذات.
ورغم حالة عدم التطابق في الشروط التاريخية لكل من الثقافتين المسيحية والاسلامية، فالباب في هذه الأخيرة لم يبق مقفلاً بصورة دائمة كما حدث في الثقافة المسيحية على مدى ألف سنة، حيث شهد التاريخ العربي الإسلامي انقطاعاً سياسياً لم يشهده التاريخ المسيحي البيزنطي.
وفي ما يخص الفلسفة وجدلية التقدم والتأخر، نجد العالم المسيحي بعد انحطاط دام ألف سنة بدأ يتقدم. والعالم الإسلامي بعد تقدم خمسة قرون طفق يتراجع. العالم المسيحي انتهى إلى ما بدأ منه العالم الإسلامي، والعالم الإسلامي انتهى إلى ما بدأ منه العالم المسيحي. فالموقف من الفلسفة أي من مسألة العقل له علاقة وطيدة بمسألة التقدم والتأخر.
ولئن يكن العالم المسيحي غرق في ظلام الشطر الأول من القرون الوسطى فلسنا نستطيع أن نستبعد، من شبكة السببيات، طرد الفلسفة، وحتى اللاهوت، خارج المدينة المسيحية. ولئن يكن العالم الإسلامي خرق التحقيب التقليدي للقرون الوسطى وعرف في القرون الخمسة الأولى عصراً ذهبياً مشرقاً، فمن غير المستبعد أيضاً، من شبكة السببيات، افساح مجال واسع للفلسفة، كما لعلم الكلام في المدينة الإسلامية.
وقد حصلت المفارقة في انقلاب الأدوار. فالعالم الإسلامي الذي تخلى عن الفلسفة، أسلم وديعتها للعالم المسيحي. العالم المسيحي الذي كان طرد الفلسفة اليونانية طرداً عنيفاً، عاود اكتشافها عن طريق الفلسفة العربية الإسلامية. وعلى حين انغلقت قلعة العقيدة القومية على نفسها بعد طرد الفلسفة والكلام خارج أسوار المدينة الإسلامية، راحت قلعة العقيدة القويمة بعد استدخال الفلسفة إلى داخل المدينة المسيحية تهدم أسوارها الواحد تلو الآخر. ومنذئذ افترقت جذرياً مصائر العالم المسيحي في غرب المتوسط وشماله عن مصائر العالم الإسلامي في شرق المتوسط وجنوبه. وانتفت كل الوجوه الممكنة للمقارنة بحسب كتاب جورج طرابيشي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.