مما لفتَ انتباهي في مقابلةٍ تلفزيونية للدكتور يحيى الغوثاني، تجربةً ذكرها عن إحدى الأخوات، خلَصَ منها إلى كونِها تمكنت من حفظِ القرآن غيبًا في 45 يومًا فقط! حيث أنَّها كانت تتخيَّل لتحفظ فتتقن حفظها، وبهذه الطريقة استطاعت أيضًا حفظ رياض الصالحين في 25يومًا، وبعدهُ كتاب (اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان) في 21 يومًا، ثم أردف ذكره قائلاً: «التخيُّل يفعل الأعاجيب، الخيال يزيد القوى الجسدية، ويزيد القوى الروحية». فدارت سريعًا في ذهني بعض التساؤلات ... هل كان الخيالُ وسيلةً للحفظِ؟ وهل خُيِّل لأحدنا يومًا أنه من الممكن أن يتخيلَ حين يَهِمُّ بحفظ شيء القرآن؟ نعم، نحن نتخيل لتكتملَ الصورة في أذهاننا، نتخيلُ لتخلدَ لدينا مشاعرَ تنقلنا من ساحةٍ إلى أخرى، فالخيال يُعطينا صورًا مختلفة تتفرد عند كل واحدٍ منا. ولما للخيالِ من أثرٍ في النفس، يجعلُ القارئَ يمعنُ النظرَ في جملةٍ من الجملِ ويعيش كينونته، يبقى سارحًا في عوالمَ أخرى تأخذه إلى غيرِ مكانه، ولما فيه من معانٍ جمًّا، فله من التأثير ما لا يوجد في الأساليبِ الأخرى. فعندما يهم أحدنا بقراءة آية من كتاب الله، يجد أنه تخيل ذاك الموقف من كل زواياه، سواء أكان في وصف الجنة أم حال أصحابها أو في وصف النار وحال أصحابها، أو كانت تتحدث عن أهوال يوم القيامة، أو قصص للأقوام السابقة، وما إلى ذلك من الأمثلة. وهنا سأتناول بدايةً تعريف الخيال بلاغيًا، حتى تتضح الصورة، وينجلي الإبهام. «الخيال هو قوة تحفظ ما يدركه الحس المشترك من صور المحسوسات بعد غيبوبة المادة بحيث يشاهدها الحس المشترك كلما التفت إليها، فهو خزانة للحس المشترك ومحلُّه مؤخر البطن الأول من الدماغ». كما عرّفهُ أبي البقاءِ بالظنِّ والتوهمِ، ووصفهُ بأنه سكنٌ للأفكار، وأردفَ تعريفهُ قائلاً: «والخيال قد يقال للصورة الباقية عن المحسوس بعد غيبته في المنام وفي اليقظة». القرآن مليء بالآيات التي تستدعي الخيال لدى الإنسان، ولا مجال لحصرها في هذا المقام، وإنما سأذكر بعض الأمثلة عليها. في سننِ الترمذي حديثٌ أبانَ صورة الخيال في القرآنِ من خلالِ سورٍ ثلاث، فعن حديث ابن عمر ? قال: قال رسول الله ?: « من سرّهُ أن ينظرَ إلى يومِ القيامةِ كأنهُ رأيُ عينٍ فليقرأ ?إذا الشمسُ كُوِّرت? و ?إذا السَّماءُ انفطرتْ? و ?إذا السَّماءُ انشقَّتْ?». ذكر الزمخشري في الكشاف أن في التكوير وجهان، الأول منهما: « يُلف ضوؤها لفاً فيذهب انبساطه وانتشاره في الآفاق» والثاني: «أن يكون لفها عبارة عن رفعها وسترها» فالمتفكرُ المتأملُ يُخيل إليه الصورة الإلهية العظيمة التي صُورت لنا من خلالِ هذه الآية، وهذا حريُّ بإثبات عظمة وقدرة الخالق، ثم انشاق السماءِ وتفطرها، وهذا ما تحمله آخر آية من المعنى نفسه. قال الزمخشري أي: «إذا انشقت بالغمام» كيف تتفق السماء فيكون الجو صحوًا صافيًا؟ كلُّ ذاك الخيال يبقى قاصرًا لدينا لا يصل إلى القصدِ القرآني العظيم المنزَّه. وفي سورةِ الغاشية يقولُ الله تعالى: ? فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ? . للقارئ أن يتخيلَ في ذهنهِ هذه الآيات ويُبحر في معناها فيأنس بها، وتكن مدعاةً للتأملِ والتدبرِ الذي يجعلهُ يفقهُهَا ويُدركها ويُصبحَ فَطنًا بها. والسرر المرفوعة «من رفعةِ المقدارِ ليرى المؤمنَ بجلوسهِ عليه جميع ما خوّله ربه من الملك والنعيم» . والأكواب الموضوعة بين يدي المؤمن كلما رغِب بها، «عتيدة حاضرة لا يحتاجون إلى أن يدعوا بها» والوسائد مصفوفة بجانب بعضها البعض كيفما أرادها كانت له، والبسط التي تفرش للجلوس عليها. وإذا ما نظرنا إلى تتمة الآيات بدءًا من: ? أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ? وتفكرنا في عِظَمِها وكيف دعانا المولى إلى التبصُّر فيها. كيف خُلقت الإبل؟ خلقًا عجيبًا دالًا على عظم الخالق، شاهدًا بتدبير مدبر. ثم إلى السماء وكيف رُفعت بلا عمد، وإلى رسوخ الجبال وثباتها، وإلى الأرض كيف سُطحت «سطحًا بتمهيد وتوطئة فهي مهادٌ للمتقلب عليها». هذا الخيال وهذا التصوير «يُعبر بالصورةِ المحسة المتَخيلة عن المعنى الذهنيّ والحالة النفسية، وعن النموذجِ الإنساني والطبيعة البشرية، كما يعبر عن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها، فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخصٌ حي. فأما الحوادث والمشاهد والقصص والمناظر والقصص ولمناظر فيردها شاخصة حاضرة فيها الحياة فيها الحركة فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل» مما سبق يتضح لنا تضافر القرآن الكريم مع المواقف والقصص من خلال الخيال، الذي يرقى إلى الفهم القرآني الجليل، وإدراكه لأهمية الخيال ودوره في الإقناعِ والتأثير. نحن لا نقصدُ بالخيالِ هنا ما هو ضدُّ الحقيقةِ ولا الظن والتوهم وإنما القوة القادرة على التفكر والتدبر التي اختص الله بها الإنسان، فهذا التصويرُ الحسيّ والتخييلُ من أهمِّ الوسائل المعينة على تدبِّر وحفظِ القرآن الكريم. ** **