حين دخل الدكتور جاسر الحربش إلى تويتر تباشرنا بدخوله غير أن الفرحة لم تدم إذ أعلن تذمره من أجواء تويتر، وليس هذا بغريب على رجل عاش عمره كله بذائقة متفردة تميز علاقاته كلها، بدءا من علاقته مع تخصصه الرئيس طبيبا شهد له الكل بنطاسيته لكنه ضاق بالمؤسسة مع أنه كان ضمن النخبة المبكرة في كلية الطب في جامعة الملك سعود ومستشفى الملك خالد وكل زملائه هناك كانوا من مجموعته في ألمانيا وبينهم تجانس كبير جدا يبلغ حد الأخوة، ولكن قيد العمل المؤسسي لم يتلاءم مع الرجل القلق الذي يحتاج لمساحة من الحرية الذاتية ويحتاج لموازنة ذلك مع حس المسؤولية وأخلاقيات المهنة وساعاتها الطويلة وتوقيتاتها الصارمة وجاسر يحمل روح الأديب من تحت جلد الطبيب، وقد تصارع عنده الطبيب مع الأديب من وقت مبكر في حياته المهنية، وكان لا بد له أن يحسم الأمر وفي الغالب حين ذاك أن يعطي الطبيب إيثارا على الأديب، ولكنه لم يفعل ذلك فآثر أن يستقيل من الجامعة ليحسم خياراته بقرار حر وذاتي حدث ذلك في وقت كان كل متخصص يهرع للمؤسسة الجامعية وكانت الجامعة تمثل انتصارا معنويا يجمل تتويج حياة أي متخصص في أي علم كان، ولكن الأديب يتمرد على نظريات المؤسسسة كلها بداية من الهالة المعنوية واستمرارا على نظامية العمل ونمطيته، وهو حين يستقيل ويغادر الجامعة فإنه يغادرها ليكون صاحب القرار وليتمكن من تحقيق أحلام الأديب مع احترام تخصص الطب وهنا زاوج بين المعنيين، وفتح عيادته الخاصة وكأنما فتح مكتبة ابن سينا، طبيبا وأديبا، معيدا صياغة معنى الطبيب الفيلسوف أو الشيخ الرئيس أما نحن البعيدين (كنت حينها في جدة) فنعرف جاسر الحربش الكاتب ونتعامل معه بوصفه صاحب قلم رشيق وفكر نير، وحس وطني وإنساني يخترق صفحات المطبوعة ليربط القارئ والقارئة مع فضاء أسلوبي فيه مهارة الكتابة وانسيابيتها مع دقة اللغة واقتصاديتها وكأنما يزن كلماته بميزان الذهب بدقته وصرامة حساباته، وكذا جمع بلاغة التعبير مع صرامة الانضباط، وكانت مقالاته دليلنا إليه تربط حبل صلتنا معه، ولم أكن أعرف ابتداء أنه طبيب، ولكني شكلت صورة من مقالاته عنه تصورته فيها فنانا أراد أن يرسم ولكنه ترك الريشة واشتبك مع القلم، وظلت صورته هكذا عندي، حتى علمت من صديقنا فهد الحارثي أن جاسرنا هذا طبيب ويقسم نفسه في جسوم عديدة طبيبا وأديبا، ولم يترك مهنة الطب، وهنا فهمت لغز دقته في الكتابة وتبدى لي أنه يكتب وصفات منوع خاص، هي وصفات هربت من سرير الكشف الطبي لتمتهن سرير اللغة الكاشفة ومن ثم الواصفة للحالة تشخيصا وتوصيفا. ذاك هو جاسر الحربش سليل ابن سينا نطاسيا في مهنته وفي قلمه.