في مساء بيروتي كان البحر والليل والشعر وهو حاضرين كروعة تلك المدينة، ذاك المساء الاستثنائي كانت"عكاظ"أهدتني على صفحاتها مقالاً كتبه أديب أعز وأجل كلماته التي قلدتني وساماً مميزاً أظل أعتز وأفخر به. كانت سعادتي كبيرة لأن أجراس كلماتي وقصائدي قرعت نوافذ قلبه، فأشرعت نوافذ الفكر والقلب لها. كنت جد سعيدة لأن الكلمات رحلت حيث هو، عانقت البحر الذي أعشق وجدة التي أهوى وألقت رذاذها على الشطآن والأوراق. وليس بغريب على أديب كثيراً عرف عنه تشجيع الآخرين على فعل الكتابة والإبداع. ذات رواية كان حضوره طاغياً، حيث اعتكف في صومعتي الخاصة بين كتبي وأوراقي. وذات مساء بيروتي النكهة حمل لي مقاله الفرح والحياة، كنت سعيدة بكلماته وشهادته. ذلك هو عبدالله الجفري الإنسان المثقف والأديب المتواضع، كانت الثقافة سبيله إلى الحياة التي تعسر نبضها كثيراً داخل قلبه المتعبن الذي لطالما حاول الأطباء إنعاشه من دون جدوى لأنه قرر أخيراً أن يستقيل من نبضه حاملاً معه ما امتلأ به من الحياة قسوتها وفرحها، شقاؤها ونعيمها، ذكرياتها وأيامها. عبدالله الجفري أديب استثنائي يحلق نثره في مدارات الشعر، فتتوضأ روحه بالنور والضياء، وتعبر أعماق البحر لتنثر مكنوناته وما يضم من أسرار، تنسكب حروفه كالتبر على بتلات الزهر، كرماد النجوم المحترقة على صفحة العتمة، كالنيزك حين يستقر في حضن الأرض بعد رحلة عبور امتدت آلاف الكيلومترات، حين يكتب الجفري كلماته تبدو كالنقر على مرآة الماء، كبندول الوقت تتأرجح ما بين السكون والجنون وتقرع أجواء الصمت، تستفز كلماته الروح المنهكة. تسلب منها استقرارها وهدوءها، تحول الموت إلى ميلاد، والصفر إلى جذر، وتعود النهايات إلى الساعة الأولى في دوامة الوقت. لطالما كان عبدالله الجفري صحافياً من العلاماتِ البارزة في مدرسةِ الأساليب الصحافية العربية، أقحم أسلوبه الأدبي في كتاباته الصحافية لتتميزَ هذه الكتابات وسرعان ما تلقى الطريقَ ممهداً لها إلى قلبِ القارئِ وفكره. في مقولة لجان بول سارتر:"المثقف سلوكي"وكذلك كان هو مثقف انعكست ثقافته على أخلاقه وسلوكياته. ما أعظم الشوق حين نشتاقك، وأكبر الحزن ونحن وأحبتك نودع نعشك إلى الأبد. ما أجمل قلمك حين تنزف مشاعرنا التي لطالما أحسن حرفك مداعبتها. ما أعذبك أيها الصديق العزيز والأديب المبدع والأب الحبيب، حقاً رحلت لكنك تركت إرثاً أدبياً كبيراً نظل نعتز به ويظل من موروثاتنا القيمة. حين أزور جدة سأقصد البحر وعلى ناصيته سألوح بكفي لك، لأنني سأكون على يقين بأنك واقف هناك على الضفة الأخرى تملأ يراعك وتلوح لي.