نلتقي عبر الأيام أشخاصاً يكون لهم -دون سواهم- أثرٌ كبيرٌ وباقٍ في حياتنا. الدكتور عبد الرحمن بن صالح الشبيلي - رحمه الله - كان أحد هؤلاء الأشخاص بالنسبة لي، وربما لكثيرٍ منكم. التقيته لأول مرة عند انضمامنا عضوين في مجلس الشورى في دورته الأولى، وكان - رحمه الله - صاحب المبادرة والفضل معاً في ذلك. فبعد اللقاءات العابرة، والأخرى الرسمية، التي كانت تجمع بين أعضاء المجلس، شاءت الأقدار أن تجمعني بأبي طلال، وتؤسس لعلاقة صداقة وأخوّة ربطت بيننا، عندما تحدثت ومجموعة من الزملاء في المجلس عن تنظيم رحلة برية في مطلع شتاء 1420ه/2000م، فعلم أبو طلال بمشروع الرحلة، وانضم إليها، وغدا قائدها المحرّك لها، والمهتم الأول باستمرارها في كل عامٍ لاحق بعد ذلك، حتى شتاء العام الماضي. وتبع انطلاق الرحلة، التي غدت حولية، وأطلق عليها أبو طلال اسم الشور حالة، حديثٌ بيننا عن مشروعٍ كنت أسعى لإكماله، ألا وهو تدوين ما تيسر من سيرة مؤسس المركز الثقافي الذي كنت، وما زلت، أتولى متابعة أعماله، الوالد -رحمه الله. فقد بادر أبو طلال بسؤالي عما فعلناه في هذا السبيل، ثم شرع فاقترح خطة عمل لإنجاز المشروع، واستعد فتولى رئاسة تحريره، واستمر فتابعه حتى صدوره بعنوان «تاريخ وطن وسيرة رجال»، وهو العنوان الذي اختاره له. ورغب مجلس إدارة المركز تقديم مكافأة نقدية لأبي طلال نظير إكماله هذا العمل، ولكنه رفض قبول المكافأة، موضحاً أنها ما كانت غاية له في تصديه للمشروع، وما كان يرغب لها أن تغير في ذلك. ولم تقف عطاءات أبي طلال للمركز عند مشروع السيرة، بل توسّعت بعدها ليكون له حضوره الملموس في المناشط الثقافية الأخرى للمركز؛ المنبرية منها وغير المنبرية؛ كما انخرط في عضوية المجلس الثقافي في المركز، وهيئته التنفيذية المنظمة لهذه المناشط، متقبلاً العضوية ورافضاً الرئاسة؛ ثم انضم لعضوية مجلس إدارة المركز، وترأس لجنة الاستثمار فيه، تحت إلحاح المجلس عليه بقبول رئاسة اللجنة لغايات أوضحها له المجلس. وغنيٌّ عن القول، إننا جميعاً في المركز سنفتقد الكثير بعد رحيل أبي طلال، كما سيفتقده المتابعون للمركز والمستفيدون من أعماله ومناشطه. فكما يعلم كلُّ مَنْ عرف أبا طلال وعمل معه، فهو رجلٌ فريدٌ في نوعه. كريم النفس، هادئ الطبع، خفيض الصوت، بليغ الخطاب، صادق القول، راجح الرأي، إيجابي التوجه، محب للخير، سامي الخلق، مؤاثرٌ على الذات. لا يكثر الكلام، فإن تكلم أتى بما يوجب الإنصات والقبول، دون إلحاحٍ أو جدال. لا يقصر تفكيره في حدود المألوف، بل يفكر خارج الصندوق، دون أن يكون في تفكيره شطط أو تجاوز غير مقبول. لهذا، أجزم أن ما من نشاط قام به المركز بعد انضمام أبي طلال إليه إلا وكان لأبي طلال بصماته الخلاقة الواضحة فيه. نعم، سيفتقد مركز عبد الرحمن السديري الثقافي أبا طلال، وسيترك أبو طلال فراغاً في المركز ليس من المتيسر تعويضه. وسأفتقد أنا أبا طلال على مستوىً آخرَ أيضاً. فكما أشرت في مطلع هذه الورقة، وكما ذكرت في مناسبات سابقة؛ فقد ربطتني بأبي طلال علاقة الصديق بصديقه، بما انطوت عليه من حميمية وانفتاح، وعلاقة الأخ بأخيه بما اتصفت به من متانة وديمومة، وعلاقة الابن بوالده بما قامت عليه من احترامٍ جم منّي له. فأبو طلال لم يكن ليكتفي بإبداء الرأي لي فيما أستشيرُه به، فيُسرُّه لي بصدق، أو يستجيبُ لما أطلبه منه، فيقدمه لي دون تردد، أو يقفُ معي كلما احتجتُ له، فيشد من ساعدي؛ وإنما كان فوق هذا يُبادرُ فيُشيرُ عليَّ بما غفلتُ عنه، ويُقدِّم لي ما لم أجرؤ على طلبه، ويحثّني على عملِ ما كان يجدرُ بي التصدِّي له. كنتُ أودُّ أن أقولَ إنها علاقة خاصة ربطتني دون سواي بأبي طلال. إنما الحقيقةُ هي أنَّ أبا طلال كان كذلكَ مع كُلِّ مَن سعد بمعرفته، الأخُ الذي يطمئنُ له الجميعُ، والصديقُ الذي يثقونَ برأيه، والرجلُ الذي لا يغيبُ عند الحاجة إليه. ولا أدلَّ على ذلك من الأثر البالغ الذي تركه رحيلُ أبي طلال، كما ظهر من جمهور الحضور الكبير الذي شارك بالصلاة على جثمانه، وشهد دفنه، وقدّم العزاء فيه. وكما عبرت عنه الرثائيات الكثيرة التي كتبت فيه، شعراً ونثراً. وكما تشهد به المنتديات المتتابعة التي تناولته موضوعاً لها، كما في هذه الندوة. وما فعل الناس هذا إلا حباً لأبي طلال، وتقديراً لمآثره، وتعبيراً صادقاً عن فجيعتهم بفقدانه، ليس إلا. شهدت تدفق هذه المشاعر فقلت إننا ما نزال بخير ما دمنا نحمل هذا الحب والوفاء لنبيل كأبي طلال. وتأملت في ذلك ففهمت أن أبا طلال ظلَّ في وفاته، كما كان في حياته، محركاً لأحسن ما فينا. رحم الله أبا طلال. ** **